في سعي العلم الدائم وراء الدقة والمعرفة الأعمق، تبرز المستشعِرات الحيوية بوصفها أجهزةً تحليليةً متطوّرةً تجمع بين عناصر الاستشعار البيولوجية ومحوّلات الطاقة لرصد المواد وقياسها، فتبشِّر بتغيير قواعد اللعبة في مجالاتٍ كالرعاية الصحية والمراقبة البيئية وسلامة الأغذية.
في الوقت الذي يتم فيه تطوير أنظمة معقدة لمراقبة أداء الآلات التي تشكل عصب الصناعات الحديثة، تتدهور صحة البيئة نتيجة لتراكم المعادن الثقيلة في المياه والتربة. فالتلوث الناتج عن المعادن الثقيلة كالرصاص والزئبق يفسِد المسطّحات المائية ويسمّم الطبيعة والصحة العامة والزراعة والتنوّع البيولوجيّ، حتى لو كانت تركيزاتُه منخفضة. وهي تستمرّ اليوم بفعل التصريفات الصناعية والتعدين والتخلّص غير السليم من النفايات. كما يمكنها أن تشكّل مخاطر صحية خطيرةً على البشر، مثل الاضطرابات العصبية وتلف الأعضاء. الأسوأ هو أنّ الطرائق التقليدية للكشف عن هذه المعادن في المياه تتطلّب معدّاتٍ معمليةً معقّدةً وإجراءاتٍ تستغرق الكثير من الوقت والطاقة والتمويل.
من أكثر القطاعات تأثراً هو قطاع الزراعة إذ يواجه تحديات متعدّدة الأوجه، فتغيّر المناخ يعرقل أنماط الطقس ويقلّل المحاصيل، بينما يؤدّي الإفراط في الزراعة والتعرية وسوء استخدام الكيماويات إلى تدهور جودة التربة، فتتناقص خصوبة الأراضي، ومع ندرة المياه وانتشار الآفات ومحدودية الموارد، تبدو الإنتاجية أمام تهديدٍ كبير، خاصةً في ظلّ تزايد الطلب على الغذاء والتخبُّط في الأسواق ورؤوس الأموال.
في مدينة بليموث بولاية ماساتشوستس الأمريكية، مهَّد بحثٌ أكاديميٌّ الطريق لمشروعٍ مبتكرٍ حمل اسم "المستشعِرات الحيويّة"، تبنّاه معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، الرائد في هذا المجال، بالتعاون مع شركة "غينكغو بيوووركس" والمنظمات المجتمعية وأصحاب المصلحة المحليين، الذين يعملون معاً لتوسيع نطاق هذا المشروع في جميع أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية.
المستشعر الحيوي عبارة عن أداة متناهية الصغر، تستطيع الكشف عن جزيء واحد من مادة كيميائية معينة أو عن مسببات الأمراض الخفية. وهي تتألف من عنصرَين، الأول هو عنصر الاستشعار الحيويّ، الذي قد يكون إنزيماً أو جسيماً مضاداً أو حمضاً نووياً أو خليةً كاملة. تستطيع هذه المكونات الحيوية التقاربَ مع مواد معينة، فحين تصادف هدفها، ولنقل إنّه مادةٌ ملوِّثةٌ أو عاملٌ ممرِض، سوف تتفاعل مُحدِثةً استجابة. هنا، يأتي دور المحوِّل، العنصر الثاني الذي "يترجم" الاستجابة الحيوية إلى إشارة كهربائيةٍ قابلةٍ للقياس. بعدئذٍ، يقوم العلماء بتحليل هذه الإشارة لتحديد تركيز المادة المستهدَفة.
تتعدّد استخدامات المستشعِرات الحيويّة. ففي مجال المراقبة البيئية، على سبيل المثال، تتجوّل المستشعرات الحيويّة في دورياتٍ عبر العينات المائية، فتتقصّى وجود أيّ ملوِّثاتٍ أو معادن ثقيلةٍ أو مواد كيميائيةٍ ضارة.
بصورةٍ أعمّ، يمكن لهذه الأجهزة مراقبة التغييرات البيئية، إذ يمكن نشرُها في مختلف النظم البيئية لرصد جودة الهواء والماء، عبر كشف التقلُّبات في الأس الهيدروجيني ودرجة الحرارة ومستويات الأكسجين أو التحمُّض أو الطحالب في المسطحات المائية. كما يمكن استخدامُها لتتبّع التنوّع البيولوجيّ وتغيّر التجمّعات.
وفي القطاع الزراعيّ، تستطيع هذه الأجهزة قياس مستويات المغذّيات في التربة، كالنيتروجين والفوسفور والبوتاسيوم، وهي العناصر المهمة لنمو النباتات، فتقدّم للمزارع معلوماتٍ وتقييماتٍ دقيقةً لمدى احتياج التربة للأسمدة أو لدرجة رطوبتها ونشاطها الميكروبيّ. كما تلعب دور أنظمة الإنذار المبكّر، حيث تكشف عن مسبّبات الأمراض والآفات النباتية.
وفي مجال الرعاية الصحية، تُستَخدم المستشعرات القابلة للارتداء التي تراقب مستويات الجلوكوز ومعدّل ضربات القلب وغيرها من المؤشّرات الحيويّة، دون وخزة إبرةٍ واحدة.
كما يمكن استخدامُ هذا الابتكار في مراقبة سلامة الأغذية، حيث تستطيع الكشفَ عن مسبِّبات الأمراض أو مؤشرات التلف في الأغذية المختلفة.
ولأنّ هذه المستشعرات تستطيع الكشف عن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون والميثان وأكسيد النيتروز وغيرها من الغازات الملوِّثة، يمكن للصناعات إدماجُها في عملياتها، لتتبّع بصمتها وأثرها البيئيَّين وتصميم التعديلات اللازمة للحدّ من الانبعاثات.
لكنّ هذه الآفاق الواسعة لن تُفتَح ما لم يتمّ اجتياز التحديات التي تنتظرُ هذا الابتكار، وأبرزُها المرونة، حيث ينبغي أن تقدِر هذه المستشعِرات على تحمّل العوامل الجوية كالحرارة والبرودة والرطوبة. كما أنّها تحتاج– بالضرورة– إلى تصميمٍ سهل الاستخدام والتعلُّم بالنسبة للمجتمعات المحلية المستهدَفة من مزارعين وصيادين وغيرهم، وينبغي أن تكون مهيأةً للعمل في البيئات الصعبة مثل مناطق الكوارث.
ولا ننسى أنّ المستشعِرات هي نصف المعادلة فقط، فبعد جمع البيانات الدقيقة في الوقت الحقيقيّ، يبقى تحدّي إيصالها إلى المعنيّين وصنّاع القرار بسرعةٍ وفعّالية، الأمر الذي يتطلّب شبكات اتصالٍ قويةً وآلياتٍ متطوّرةً لنقل البيانات.
كما يتطلّب إدماج المستشعِرات الحيوية في المشاريع المجتمعية، التعاونَ مع السكان المحليين العارفين بالبيئة لتعزيز الفعالية والثقة في التكنولوجيا.
من خلال دعم القرارات المستنيرة وتعزيز الإدارة الكفؤة للموارد، ستساعد المستشعِرات الحيويّة في حماية صحة الناس والكوكب، وتدعم جهود أنصار البيئة في وضع الاستراتيجيات لحماية الغابات والمحيطات والأراضي الرطبة.
أما على صعيد الزراعة، فوجود البيانات الحية يعني استخداماً دقيقاً للموارد ونفاياتٍ أقلّ وإنتاجيةً أعلى وعزلاً أفضل للكربون ونظماً بيئيةً أكثرَ مرونة.
المراجع:
- https://www.growbyginkgo.com/2023/04/27/microbial-bloggers/
- https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC4986445/#:~:text=A%20biosensor%20is%20a%20device,an%20analyte%20in%20the%20reaction.
- https://www.sciencedirect.com/topics/agricultural-and-biological-sciences/biosensor
- https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC10046542/#:~:text=So%20far%2C%20DNA%2Dbased%20biosensors,%5D%2C%20and%20Kim%20et%20al.