أخذت سمات القطاع الصناعي بالتغير في السنوات الأخيرة مع بروز فئة جديدة من المستثمرين ممن يتبعون قوانين صارمة تجاه كيفية استثمار أموالهم واجتنابهم الاستثمارات التي تحدث آثاراً سلبية على البيئة أو تؤدي إلى انتهاك حقوق الإنسان. أصبحت بالنتيجة الصناعات المعتمدة على نماذج صديقة بالبيئة جذابة للمستثمرين وصناع القرار في الآونة الأخيرة، ومنها نموذج "الاقتصاد الدائري". أدرك صانعو القرار أهمية تشجيع الشركات على استغلال الموارد بشكل أكثر فعالية وكفاءة. ومن هنا يبرز الدور الجوهري للاقتصاد الدائري، حيث يعمل على زيادة عمر الموارد والمنتجات لتقليل الآثار السلبية على البيئة من خلال استخدام الحد الأدنى من الموارد في عملية التصنيع وإعادة تدوير المنتجات لاحقاً عند الانتهاء من استهلاكها.
ولتطبيق مفهوم الاقتصاد الدائري عملياً، تم ابتكار نموذج "التكافل الصناعي" Industrial Symbiosis، القائم على نوع جديد من التعاون بين المؤسسات الخاصة والحكومية، بهدف إيجاد طرق مبتكرة لإعادة تدوير المخلفات التي تنتجها بعض المؤسسات واستغلالها كمواد خام لمؤسسات أخرى.
ولهذا النموذج أثر كبير على تقليص الحاجة إلى استخراج أو استيراد المواد الخام وبالتالي خفض كمية النفايات الصناعية. ويعمل التكافل الصناعي بعيداً عن نموذج الانتاج التقليدي القائم على استخدام المواد الخام لصناعة المنتجات ومن ثم التخلص منها كنفايات صناعية. حيث تقوم المؤسسات المتكافلة بتشكيل حلقة إنتاج مغلقة، وهي سمة أساسية للاقتصاد الدائري، ومحرك للنمو الأخضر والحلول البيئية المبتكرة. فبالإضافة إلى تحقيق الأثر الإيجابي على البيئة والمجتمعات، هناك عدة عوامل تزيد من جاذبية هذا النموذج لدى المؤسسات المتكافلة، ومنها التوفير في شراء المواد الخام، وخلق فرص عمل جديدة في قطاع إعادة تدوير المنتجات، وتشكيل شراكات محلية وإقليمية وعالمية مع مؤسسات ذات نماذج مماثلة.
وقد دفعت الأسباب السابقة مدينة كالوندبورغ في الدنمارك إلى إنشاء أول رابطة صناعية في العالم تقوم على أسس النموذج التكافلي. حيث أثمر التعاون بين الشركات المتكافلة على تحقيق منافع متبادلة، اقتصادية وبيئية، عبر تطبيق المبدأ الرئيسي للتكافل المتمثل في إعادة تدوير المخلفات الناتجة من عمليات التصنيع لبعض المؤسسات كموارد تدخل في عمليات التصنيع لمؤسسات أخرى.
وتم إضفاء الطابع الرسمي على الشراكة كرابطة خاصة تسمى "تكافل كالوندبورغ الصناعي" ، وتم تشكيلها كمجلس إدارة، حيث لدى كل شريكٍ عضوٌ يمثله في مجلس الإدارة. وتعقد الرابطة اجتماعات منتظمة لدفع المزيد من الابتكار بالإضافة إلى مناقشة المستجدات في القطاع الصناعي. وفي خطوة لزيادة أواصر التعاون بين الشركاء، قررت الرابطة مؤخراً رسم خريطة لجميع تدفقات الموارد الداخلية للشركاء، وتنفيذ عشرة مشاريع تكافل صناعي جديدة بحلول العام 2025.
ومما ساهم في دفع عجلة نموذج التكافل الجديد تاريخ مدينة كالوندبورغ الطويل في تعاون القطاعين الحكومي والخاص، حيث تعود بوادره إلى العام 1961، حين شرعت مدينة كالوندبورغ إلى تطوير مشروع جديد لجر المياه السطحية من بحيرة تيسو إلى مصفاة حديثة للنفط وذلك بهدف الحفاظ على المصادر المحدودة للمياه الجوفية في المنطقة. بالرغم من أن العاملين على المشروع لم يدرجوه تحت مظلة "التكافل الصناعي" حينها، إلا أنه بعد ثلاثين سنة على اعتماده تقريباً، شكل المشروع أحد الركائز التي بنت عليه المدينة سياساتها الحديثة. وقد تطورت أوجه التعاون تلك تدريجياً على مدى عدة عقود بفضل العديد من المبادرات والتعاون بين الشركات من مختلف القطاعات مدفوعة بالمزايا الاقتصادية وبدعم من مدينة كالوندبورغ. مما أدى إلى اعتماد نموذج للتكافل الصناعي في المدينة تتشارك فيه وتموله إحدى عشرة مؤسسة حكومية وخاصة وينطوي على إعادة تدوير وتبادل الطاقة والمياه ومواد صناعية عدة.
ولكن كيف تمكنت مدينة كالوندبورغ من إقناع شركائها بهذا النموذج؟ تطلب تطبيق نموذج التكافل الصناعي الكثير من التواصل والتنسيق بين إدارة المدينة ومؤسسات القطاعين الحكومي والخاص وإقناعها بالفوائد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية لنموذج التكافل الصناعي.
وللحفاظ على التزام الشركاء، شرعت المدينة لإيجاد أداة لقياس تأثير التعاون التكافلي. فقامت رابطة تكافل كالوندبورغ الصناعي بتقييم آثار التكافل الصناعي استناداً إلى جميع البيانات المتوفرة من حيث التوفير في المصروفات والموارد وقارنت بين سيناريوهين، الأول يظهر آثار الإنتاج باستخدام نموذج التكافل والثاني بدونه. وقد أظهرت النتائج أن ربط المؤسسات تكافلياً يوفر على المشاركين أكثر من 24 مليون يورو سنوياً، وإضافةً لذلك تصل قيمة الفوائد الاجتماعية والاقتصادية إلى أكثر من 14 مليون يورو. بمعنى آخر، يمكن للمؤسسات المشاركة الاستفادة من القوة التنافسية نتيجة للترابط بينها، فيما يمكن للقطاع الحكومي توفير الموارد، على سبيل المثال عبر الاستثمار في إدارة النفايات.
أما بالنسبة للجانب البيئي، فإذا أخذنا واحدة من مبادرات التكافل الصناعي التي حولت عمل إحدى محطات الطاقة من الفحم إلى طاقة "الكتلة الاحيائية"، فقد أدى هذا النموذج إلى خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بمقدار 635 ألف طن، وهو ما يعادل متوسط البصمة الكربونية لما يقرب من 40 ألف شخص في الدنمارك.
وبذلك تظهر النتائج التأثير الإيجابي الكبير للتكافل الصناعي في مدينة كالوندبورغ، وتكسبه طابعاً جذاباً لتوسيع الشراكة مع أطراف جدد. ومن المتوقع أن تتوسع تلك المبادرة في الأعوام القادمة لتساهم في تعزيز الاقتصاد الدائري في الدنمارك.
المراجع
https://www.ellenmacarthurfoundation.org/case-studies/effective-industrial-symbiosis