تشهد البرازيل ثورةً في عالم التمويل الرقميّ وتزايداً في أعداد المنضمّين إليه، من خلال حملة إصلاح شاملة تقودها الحكومة، تكثِّف استخدام التكنولوجيا وتركّز على احتياجات العملاء وتجدِّد اللوائح وتطوِّر تطبيقات التحويل الفوري وتحمي مواطنيها من ارتفاع الفوائد وعمليات الاحتيال.
يرتبط التحول الرقمي بأذهان الناس بتسهيل احتياجاتهم اليومية، خاصةً بما يتعلق بالصحة والمال. أما مدى الاعتماد على التكنولوجيا المالية في بلد ما، فيخضع لمعطيات كثيرة ومتداخلة. وبينما تقطع هذه التكنولوجيا قفزاتٍ مهولةً في دولٍ كالولايات المتحدة والصين، ما تزال خطواتها خجولة في دول أخرى كالبرازيل.
تعاني البرازيل من تحديات تنموية لازمتها خلال العقود الأخيرة، فهي تشهد مستوياتٍ حادةً من الفقر وانعدام المساواة، وهذا أحد أسباب ابتعاد البرازيليين عن البنوك، لا سيما أنّ قطاعهم المصرفيّ أحد أكثر قطاعات العالم ربحية، حيث تسيطر 5 بنوك فقط على 80% من سوق القروض، ما جعل خدماتها مرتفعة الثمن والفائدة، عدا عن أنّ أفرعها قليلة العدد وموزّعة بشكلٍ يجعل الوصول إليها صعباً على بعض فئات المجتمع، خاصةً من يقطن في المناطق النائية.
وإلى جانب تحدياتها الخاصة، تواجه البرازيل تحدياتٍ أخرى أكثر عمومية، تتعلّق بالسياسات واللوائح الحكومية التي قد تعوق الابتكار وتوجِد الحواجز في وجه الأعمال والأفكار الجديدة أو الشركات الصغيرة.
لأنّ الابتكار وليد الضرورة، عقدت السلطات البرازيلية والقطاع الخاص العزم أن تتصدّر مشهد التكنولوجيا المالية في أمريكا اللاتينية، وتنفرد بنصف حصة القارة من الاستثمارات في هذا المجال.
صوب هذه الغاية، بدأت الحكومة بحزمة من الإجراءات الإصلاحية الشاملة على الإطار التنظيمي للمدفوعات، مستفيدةً من الثورة الرقمية التي انطلقت قبل عقدٍ ونيّف لتكثيف استخدام التكنولوجيا وتشجيع ريادة الأعمال.
كانت البداية بإصدار قانون يلغي الاحتكار الثنائيّ الذي هيمنت بموجبه شركتان لبطاقات الائتمان على السوق البرازيلية، ثم تخفيض الرسوم التي دفعها تجار التجزئة لقاء معاملات بطاقات الائتمان، ما دفع البنوك النشطة إلى البحث عن طرائق جديدة لاستبدال الأرباح التي فقدتها ولتحقيق النمو بشكل أكثر ملاءمة للمستهلكين.
في المرحلة التالية، تولّى البنك المركزي البرازيليّ مسؤولية تنظيم قطاع المالية والمدفوعات وتمكين جميع العلامات التجارية والأعمال النشطة من قبول الدفع بالبطاقات الائتمانية، ثم إطلاق برنامجٍ لتوعية المواطنين وتزويدهم بخيارات ائتمانٍ ميسورة التكلفة.
بعدئذٍ، أطلق البنك المركزيّ قانون النهج التناسبيّ، وهو يعني تكييف المتطلّبات التنظيمية مع حجم الشركة ومدى تعقيدها، بحيث لا تفرض السلطات عبئاً كبيراً على المؤسسات المالية الصغيرة وغير المعقّدة، لئلّا تقيّد قدرتَها على المنافسة. وقد تَلَت هذا النهجَ عدةُ تسهيلاتٍ أمام شركات التكنولوجيا المالية التي تلغي الحاجة إلى الوسيط المصرفيّ.
أخيراً، أطلقت الحكومة مبادرة "بيكس"، وهي عبارة عن نظام دفعٍ فوريّ مُدارٍ من البنك المركزيّ مباشرةً، يتيح للمستهلكين والتجار إرسال الأموال واستلامَها دون دفع رسوم التحويل، وذلك عبر تطبيقات خاصة بمعظم مزوِّدي خدمات الدفع، حيث يمكن للعملاء استخدام أسماء مستعارة أو رموز استجابة سريعة لدخول التطبيقات التي ستطلب المعلومات الخاصة بحساب المستفيد وتبدأ عملية التحويل المشفّرة والمتاحة على مدار الساعة، والتي تقدّمها بتكلفة منخفضة مقارنة بالخيارات الأخرى.
وفي مقابل سعي القطاعين الحكومي والخاص لتصميم خدمات تلبي احتياجات العملاء، فقد أبدى هؤلاء بدورهم حماسة عالية ووعياً فائقاً في تبنّي الحلول المبتكرة. يظهر هذا في إنجاز 70% من المعاملات المصرفية عبر الوسائل الإلكترونية وانضمام 16 مليون برازيلي إلى النظام الجديد، وذلك وفقاً لإحصائية رسمية.
في المرحلة الحالية، يدير البنك المركزي مشروعاً تجريبياً للعملة الرقمية، يتضمن شراء السندات العامة الفيدرالية بين الأفراد وبيعها، ومن ثم سيتم تقييم العملية بالمجمل لتُتاح هذه العملات للاستخدام العام بحلول نهاية العام 2024.
وإذ تتواصل هذه الرحلة، تتواصل معها تحدياتُها، وأبرزها إيجاد صيغة لإشراك المؤسسات المختلفة من بنوك تقليدية ورقمية وشركات تكنولوجيا مالية واتحادات ائتمانية، بتنوّع آليات عملها ومصالحها وهياكلها التنظيمية. هذا التحدي الذي اختارت الحكومة مواجهتَه بوضع كتيِّب إرشادات مفصّل يغطي كلّ الاحتياجات اللازمة لتشغيل الخيارات المالية الجديدة بسلاسة.
أما التحدي الثاني، فتمثّل بخطر تسريب البيانات الناتج عن جهل شركات كثيرة بالرقمنة، ما زاد من الثغرات الأمنية، وهي مشكلة عانت منها البرازيل مسبقاً وأدت إلى خسارة البرازيليين قرابة 40 مليار دولار نتيجة عمليات الاحتيال. تحدٍ يحمل في طياته فرصة للشركات الناشئة لابتكار حلول الحماية وأدواتها الحديثة.
ويبقى تحدي توفير هذه الخدمات لكلّ أفراد المجتمع قائماً، لكنّ الحكومة تراهن على مجتمعها الذي يتمتع بأحد أعلى معدّلات استخدام الإنترنت والهواتف الذكية في العالم.
وحين نقول إنّ البرازيل تنفرد بنصف حصة القارّة من الاستثمارات المالية، فهذا يعني أنّها تضمّ 12 من بين 700 شركة أحادية القرن حول العالم، وهذا مصطلح اقتصاديّ يشير إلى الشركات الناشئة التي يتجاوز رأس مالها مليار دولار بسبب نمو رقم أعمالها بغض النظر عن ربحيتها، ما يمكنّها من تنفيذ عدة جولات تمويل واستثمار ترفع قيمتها السوقية. وإذا تمت مقارنتها بالصين أو الولايات المتحدة فإن عدد تلك الشركات قد يبدو ضئيلاً، لكنه الأكبر ضمن دول أمريكا اللاتينية.
وقد شهد العام 2021 زيادة بنسبة 66% في أعداد المستخدِمين الذين يُنشِئون حسابات مصرفية عبر القنوات الرقمية، حيث يحظى 85% من البرازيليين بإمكانية الوصول الرقمي إلى الخدمات المالية، وهذه أفضل وتيرة تطوّر تشهدها البرازيل منذ عقود.
اليوم، تقدّم مبادرات مثل "بيكس" تجارب سلسة وآمنة في مختلف المجالات. ويمكن القول إنّ البرازيل تتصدر الطفرة اللاتينية في مجال الشمول المالي، حيث أدت إجراءات القطاع المصرفيّ بالتكامل مع الثورة الرقمية إلى زيادة المنافسة وخفض الرسوم المصرفية وإرساء منظومة مالية مبتكرة تلائم احتياجات المواطنين.
المراجع:
- https://www.weforum.org/agenda/2022/05/brazilians-are-adopting-digital-payments-faster-than-anyone-else-what-lessons-can-we-learn/
- https://www.omfif.org/2023/01/brazil-is-undergoing-a-fintech-revolution/
- https://ibsintelligence.com/ibsi-news/3-brazilian-fintechs-revolutionising-the-financial-sector/
- https://www.forbes.com/sites/forbestechcouncil/2021/08/09/a-look-into-brazils-booming-fintech-scene/?sh=688992eb72b0
- https://www.zdnet.com/finance/banking/more-brazilians-are-banking-online-than-in-person-for-the-first-time/
- https://labsnews.com/en/articles/experts/perfect-storm-financial-inclusion-brazil/
- https://www.bcb.gov.br/en/financialstability/pix_en
- https://www.reuters.com/world/americas/brazil-announces-pilot-digital-currency-seeking-leverage-financial-services-2023-03-06/