ضمن استراتيجيّة التكيّف طويلة الأمد، تعمل حكومة مدينة سيدني الأستراليّة بالتعاون مع خبرائها الأكاديميّين، على دراسة تغيُّرات درجات الحرارة عبر مناطقها المختلفة من خلال مسجِّلاتٍ تجمع البيانات، لتحليلِها والبناء عليها في اختيار الوسائل المثلى لمشاريع التبريد المستقبليّة.
في هذا العصر، يبدو بديهياً أن تكون درجة الحرارة في المدن أعلى منها في المناطق المحيطة بها، وإن كانت متاخِمةً لها، فما مَرَدُّ ذلك؟ مَرَدُّه كثرة الأسطح الصّلبة مقارنةً بالغطاء النباتيّ، فهي تحتجز حرارة الشمس خلال النهار وتحرِّرُها في ساعات الليل، وهذا ما يُعرف بتأثير الجزيرة الحراريّة الحَضَريّة.
تَفرِض هذه الظاهرة مخاطرَ كبيرةً على البيئة والصّحّة العامّة، فتزيد الأمراض المرتبطةَ بارتفاع درجة الحرارة وتلوّث الهواء، كضربات الشّمس وأمراض الجهاز التنفُّسيّ التي تهدِّد كبارَ السنّ والمصابينَ بمشاكل صحّيّةٍ مزمنة، من جهة، فيما تزيدُ الطلبَ على تكييف الهواء فتستنزف موارد الطّاقة من جهةٍ أخرى.
هذه هي الحال في العاصمة الأستراليّة، سيدني، التي تشهد ارتفاعاً تدريجياً في المتوسِّط السنويِّ لدرجات الحرارة، وتشير التوقّعات إلى زيادةٍ تفوق 3.1 درجةً مئويّةً بحلول العام 2070، ثم تصل إلى 4.5 درجةً مئويّةً بحلول العام 2100. بالنّسبة لسكّان المدينة– الآن وفي المستقبل– ستُترجَم هذه الأرقامُ إلى أيامٍ أشدَّ حرارةً وأكثرَ عدداً، وستضغط على منظومات البنية التّحتيّة الحيويّة مثل الطّاقة والنّقل.
ولأنّ تغيُّر المناخ أحد أكبر التحدّيات التي تواجه المدينة، وضعت سلطاتُها خطّة استجابةٍ واسعة، تتضمّن زيادة الوعي والفهم بموجات الحر وتلوّث الهواء وحرائق الغابات وغيرها من الأحداث المرتبطة بالمناخ، إلى جانب العمل مع شركات الطّاقة لتحديد مكامنِ ضعفِ المنظومة الحالية ونقاط قوّتها.
كانت البداية بإجراء دراسةٍ لموجات الحرّ وبناء نظام تحذيرٍ خاصٍ بها، وذلك بالتعاون مع جامعة "ويسترن سيدني".
تركِّز الدراسة على رسم خرائط لدرجات حرارة الهواء طوال فصل الصيف، وستبدأ بتوزيع 200 مسجِّل بياناتٍ مُصمَّمٍ خصيصاً ضمن منطقة الحكومة المحليّة، حيث ستوضَع في مناطق ذات مستوياتٍ مختلفةٍ من الغطاء النباتيّ، على الأشجار وقرب البنى التحتيّة كالطّرق والمباني. الغرض من توزيعِها هو الحصول على بياناتٍ أكثر دقّة، فتأثير الجزيرة الحراريّة الحَضَريّة يختلف ضمن منطقةٍ أو مدينةٍ واحدةٍ تبعاً لعوامل متنوّعةٍ، مثل الموقع الجغرافيّ والبنية التحتيّة وأنماط استخدام الأراضي وكثافة المساحات الخضراء أو المباني.
تُحفَظ هذه المسجِّلات ضمن عُلَب من الألومنيوم الأبيض، قابلة لإعادة الاستخدام ومزوَّدة بنظام تهوية داخليّ.
سيعمل 150 مسجِّلاً منها على قياس درجة حرارة الهواء الفعليّة، في حين ستواظب 50 أخرى على مراقبتها مصحوبةً بدرجة الرّطوبة لوضع تصوُّرٍ حول "شعور" النّاس إزاء درجة الحرارة، لأنّ إحساسَنا بدرجة الحرارة لا يقتصر على الأرقام التي تظهر على أجهزة القياس، بل يتعلّق بعدّة عوامل أخرى، أهمُّها الرّطوبة.
ستعمل هذه الأجهزةُ على توثيق درجات الحرارة كلَّ 10 دقائق، ما يعني أنّها ستوفّر أكثر من 3 ملايين نقطة بياناتٍ خلال فترة الدّراسة التي ستستمرّ حتى العام 2024.
لن ينتهي العمل آنذاك، فجمعُ البيانات لا يكفي، ويجب أن تُحَلَّلَ وتُبنى عليها استراتيجياتٌ متعدّدة الأوجه ومشاريع تبريد متنوِّعة، إذ لا تؤدّي طرائق التبريد إلى نتائجَ متماثلةٍ دوماً، لأنّ لكلِّ منطقةٍ معطياتها التي تستدعي استراتيجياتٍ خاصّة، فزراعة الأشجار مثلاً توفر الظلّ والتبخّر، ومراكز التّبريد تؤمّن ملاذاً للنّاس خلال ساعات الحرارة الشّديدة، في حين تساهم المناطق المُظَلَّلة ونوافيرُ المياه الموزّعةُ استراتيجيّاً في تعزيز التبريد العام، وكذلك تركيب الأسطح العاكسة أو إرساء بنيةٍ تحتيّةٍ خضراء. ولينجح كلُّ هذا، يجب أن يكون مصحوباً بحملات التوعية والمشاركة المجتمعيّة.
كما يجري العملُ الآنَ على افتتاح مركز العمل المناخيّ بميزانيّةٍ بلغت 31 مليون دولارٍ مُقدّمةٍ من حكومة مدينة سيدني، ليكون مكاناً قادراً على استضافة 400 شخصٍ، منهم المبتكِرون والمستثمرون وأعضاء مجموعات العمل المناخيّ والأكاديميّون وروّاد الأعمال، ليعموا معاً على تطوير المشاريع المناخية المبتكرة، بما فيها الطّاقة المتجدّدة والاقتصاد الدائريّ والمحيط الحيويّ.
سيتيح هذا الأمر لشركاتِ تكنولوجيا المناخ التقدُّميةَ، طرح أفكارها وتوليد فرص العمل والتوسّع في السوق العالميّة. فيما ستدعم البيانات الدقيقة وأدوات القياس، صنّاع السياسات، في رسم خطط العمل المستقبليّة واختيار الطرائق المثلى للتعامل مع موجات الحرارة.
علاوةً على ذلك، تسلِّط هذه التجربةُ الضوءَ على أهمّيّة الشراكة بين الحكومات المحلّيّة والأوساط الأكاديميّة والبحثيّة في مقاربة مختلف القضايا، لا سيّما قضيّة المناخ، حيث تقدِّم الجامعات الخبرةَ والمعرفة العلميّة والحلول المُبتكَرة، لتستندَ الحكومات عليها في اتّخاذ قراراتٍ مستنيرةٍ وتصميم سياساتٍ فاعلة.
كل هذا يعزِّز الممارسات المستدامة والمرونة لوضع استراتيجياتٍ استباقيّةٍ قائمةٍ على الأدلّة لمواجهة أكثر التحدّياتٍ إلحاحاً.
المراجع:
- https://www.smartcitiesworld.net/climate-action/sydney-maps-microclimates-to-combat-urban-heat-9696
- https://www.cityofsydney.nsw.gov.au/-/media/corporate/files/2020-07-migrated/files_2/2016-022571-adapting-to-climate-change-accessible.pdf?download=true#:~:text=As%20part%20of%20our%20Sustainable,energy%2C%20and%20tri%2Dgeneration.
- https://www.governmentnews.com.au/councils-heat-island-study-a-first-for-eastern-sydney/