على الجبال الوَعِرة وحول ضفاف الأنهار الجليديّة، تواجه المجتمعات الأصلية آثر تغيّر المناخ متكئةً إلى خبراتها وتقاليدها، فتتشارك مع خبراء الدراسات البيئية في إعادة إحياء حكمتها القديمة لتنسِّقَ سُبُلَ عيشِها وتحقق سيادتِها وأمنها الغذائيين.
على مر العصور، ابتكرت المجتمعات البشرية نظمًا ذكية ومتوارثة لتوقع التغيرات المناخية والاستجابة لها، أطلق عليها العلماء اسم "التقويمات البيئية". كانت هذه التقويمات تعتمد على مؤشرات طبيعية دقيقة، كبرعم الزهرة أو حركة الحشرات، لتحديد أوقات الزراعة والحصاد والاحتفالات.
ترتبط هذه التقويمات بمؤشّراتٍ بيولوجيةٍ وفيزيائيةٍ محدّدةٍ تتغير مع الفصول، فتتكرّسُ أنظمةً معرفيةً تعطي الوقت معنى. وبناءً عليها، نسّقت المجتمعات التي تعيش في الطبيعة أنشطة لكسب العيش، إلى أن قارب من الاندثار بفعل المد الحضاري وثورة التصنيع، ثم جاء تغيّر المناخ الناجم عن الأنشطة البشرية ليشوّش قدرة المجتمعات على التنبؤ بأنماط المناخ، ويطرح أنماطاً جديدةً غير مسبوقة، كذوبان الثلوج المتسارع وتراجع الأنهار الجليدية، في وقتٍ لا يزال فيه حوالي 70-80% من سكان العالم يعتمدون على الغذاء المُنتَج بأيدي صغار المزارعين والرعاة، الذين أصبحوا عاجزين عن إدارة أراضيهم ومواشيهم.
لهذا، أصبح العالم بحاجةٍ إلى قدرةٍ استباقيةٍ على استشراف المستقبل ووضع خططٍ ديناميكيةٍ للتعامل مع حالات عدم اليقين، أي أنّه لا بدّ من أنظمةٍ جديدةٍ قادرةٍ على تفسير شيفرات الطبيعة ومساعدة المجتمعات على التوقّع، ومن ثمّ التكيّف.
بحثاً عن هذه الأنظمة، انطلق فريقٌ من الباحثين من كلٍّ من الولايات المتحدة وألمانيا وإيطاليا والصين لربط الحكمة القديمة بالعلم الحديث، بناءً على دراسةٍ طُرحت في كلية الزراعة وعلوم الحياة في جامعة كورنيل. وهكذا، وزَّع الباحثون عملهم على خمس مناطق جغرافية متنوعة، لكلٍّ منها سياقُها البيئي الفريد ووسطُها الثقافي، وهي: بامير في قيرغيزستان وطاجيكستان، ومجتمعات ستاندينغ روك سيوكس وأونيدا ليك ووترهيريك في الولايات المتحدة.
لم يكن ذلك مجرّدَ بحثٍ علميّ، بل كان عملاً تشاركياً مع المجتمعات المحلية لإثبات المفهوم وإنشاء تقويماتٍ بيئيةٍ جديدة، فبدأ الباحثون رحلتَهم بتحديد الجولات الموسمية، ثم الانغماس في حياة الناس، فعاشوا بين القرويين، ودوّنوا في دفاترهم مقابلاتٍ شبهَ منظَّمةٍ وملاحظاتٍ حول سبل العيش، ولم يكتفوا بدور المراقب، بل أصبحوا جزءاً من نسيج الحقول والمراعي ومواقع الصيد والمنازل المريحة، فيما يسجّلون بمقاييس دقيقةٍ درجات الحرارة والرطوبة وسرعات الرياح وغيرها، ويوثّقون المؤشرات البيئية القائمة والأبعاد المكانية والزمانية للمواسم.
لم يقتصر العمل على توثيق التقويمات البيئية الحالية للزراعة والرعي، إذ تطرّق الباحثون أيضاً إلى التقويمات الخاصة بالجسم البشريّ، وشرعوا في رسم خرائط للدورات الموسمية للمجتمعات الجبلية في آسيا الوسطى أيضاً من خلال دعوة القرويين لتحديد المؤشرات البيئية التي يستخدمونها للعناية بأنفسهم.
ولأنّ هذه المجتمعات تتمتع بعلاقة طويلة الأمد مع الباحثين، وهي علاقة مبنية على الثقة والتفاهم المتبادل، فقد شارك القرويّون بدورهم في إعداد الوجبات الجماعية والمشاركة بنشاط في المحادثات التي أشركت أشخاصاً من خلفياتٍ وثقافاتٍ وطرائق معرفةٍ مختلفة لفهم تحديات تغير المناخ الخاصة بكل مجتمع.
وقد لعب التعاون والتشاركية دوراً حاسماً في هذه الدراسة، لأنّه يضمن أن يكون البحث مرتكزاً على الواقع المحليّ وذا صلةٍ بأبنائه.
كما تضمّن العمل الميداني صيانة محطات البحوث المناخية الموجودة، حيث استبدل الفريق محطّةً تضرّرت بفعل انهيارٍ جليديّ. وجمعَ الباحثون البيانات المتاحة في كلِّ محطةٍ ورسموا خرائط للغطاء النباتي لتحليل السلاسل الزمنية لدورات الحياة وتوقع التباين المناخي.
لم يكن العمل دائماً بهذه السلاسة، فالحدود التي تفصل الشريكَين أعقدُ من فوارق الخلفيّات العلميّة، فهناك حدود الجغرافيا، والأهمّ، حدود اللغة. لاجتيازها، كان على الفريق بذل جهدٍ مَهولٍ لتحضير كلّ خطوةٍ من رحلتهم بالتفصيل وقبل مدةٍ طويلة، ولتنسيق العمل عبر عدة بلدان ومع عدة زملاء ومترجمين وهيئاتٍ إدارية وقياداتٍ مجتمعية ومدارسَ محلية، استعداداً للتنقّل والتواصل وإلقاء المحاضرات وتدريب الطلاب.
علاوةً على ذلك، كان عليهم الاستعداد من ناحية التكنولوجيا والمعدات المتاحة، خاصة قبل زيارة محطات أبحاث المناخ.
ومع أنّ هذه المجتمعات تثق بالباحثين عموماً، كان لا بدّ من الاستعداد أيضاً للتعامل مع الأفراد، لا سيما بالنسبة لشخصٍ سيقيمُ بينهم، فليس معروفاً عن أبناء المجتمعات الأصلية ميلُهم لمشاركة خصوصياتهم أو خلاصة موروثاتهم الثقافيّة مع الغرباء. لذا، راعى الباحثون التدرُّجَ والتمهُّل في محادثاتهم، دون إلحاحٍ أو إفراطٍ في طرح الأسئلة، وحرصوا كذلك على إبداء احترامهم للتقاليد.
وعبر إشراك أفراد المجتمع، لا سيما مَن يملكون معارفَ بيئيةً تقليدية، اكتسب الباحثون رؤى أعمق، وطوّروا استراتيجيات تكيُّفٍ مصمّمةً خصيصاً لتلائم كلَّ سياقٍ على نحوٍ منفصل.
من خلال جمع الرؤى العلمية بالمعرفة القائمة على المكان والمعارف الأصلية، أعادت هذه الجهود للمجتمعات المحلية قدراتها على التنبؤ والتكيف، ولو على نحوٍ جزئيٍّ أو مبدئيّ، وعزّزت التعاون وإحساسَ السكان بملكيّتهم لأرضهم، فقد أصبحت المجتمعات المحلية بمثابة مستثمِرٍ في الأبحاث، معنيٍّ بنتائجها، بعد أن أدرك أبناؤها أنّ معرفتهم بموطنهم قوةٌ لهم، فهويّتُهم وثقافتُهم ومفاهيمُهم المقدّسة كلُّها تنبع من ارتباطهم به.
المراجع: