من الملهم أن يجد الباحثون حلولًا لأكبر التحديات في أصغر الكائنات. هذا ما فعله باحثون في سعيهم لتطوير البنية التحتية للمركبات الكهربائية، فاستوحوا من العفن الغروي طريقةً لإنشاء شبكة شحنٍ متعدّدة الأغراض توفِّر الوقت والتكلفة والأثرَ البيئيّ.
مع التحول العالمي نحو وسائل نقل نظيفة، من المتوقع أن تحتل المركبات الكهربائية مكانة الصدارة في مستقبل النقل المستدام، مما يستدعي تطويرها المستمر لتحقيق أقصى قدر من الكفاءة.
واقعُ الأمرَ أنّ هذا لا يزال هدفاً بعيداً، فلا منظومة ناجحةٌ دون بنيةٍ تحتيةٍ متينة. وفي حالة المركبات الكهربائية، تواجه البنية التحتية صعوباتٍ كبيرة، فإنشاء محطات الشحن يستهلك الكثير من الموارد مثل المعادن والخرسانة والبلاستيك ويؤثّر على النّظم البيئية ويعطِّل الموائل ويغيِّر استخدامات الأراضي، لا سيّما أنّ المحطات المُنشأة في مواقعَ غير مدروسة تزيد الاختناقاتِ المروريةَ والانبعاثاتِ المرتبطةَ بها. علاوةً على ذلك، تحتاج هذه المحطّات إلى الصيانة والفحص المنتظمَين، ما يزيد التكلفة أكثر.
ولأنَّ الهدفَ الأبعدَ لهذا التوجُّهِ ككلّ هو الحفاظ على البيئة، وجَّه الباحثون أنظارهم إليها بحثاً عن الإلهام، فاستمدّوا فكرةً من العفن الغروي، وهو من الكائنات وحيدة الخلية التي تنتمي إلى مملكة الأوليات. وركّزوا على أحد أنواع العَفَن الغروي، وهو نوعٌ يُعرف باسمه العلميّ "فيزاروم بوليسيفالوم" (Physarum Polycephalum) - ويعرف اختصارا باسم البلوب - الذي يزدهر في بيئاتٍ رطبة ومظلمة، ويساهم في تفكيك المواد العضوية الموجودة فيها وإعادة تدويرها ضمن الشبكة الغذائية.
يُظهِر هذا الكائن أحاديّ الخليّة قدراتٍ مبهرةً على حلِّ المشكلات، فعند بحثه عن المواد الغذائيّة، يعمل على تمديد أنابيب البروتوبلازما، الأساس الحيويّ للكائن الحيّ، فيبني بذلك شبكاتٍ فعّالةً تربط بين مصادر الغذاء المختلفة. يسمح هذا السلوك للبلوب بالموازنة بين استكشاف مناطق جديدة واستغلال الموارد المعروفة. وهو في جوهره حلال طبيعي للمشاكل، حيث يعمل على تحسين توزيع الموارد.
هذا هو بالضبط ما حاول الباحثون محاكاتَه، فابتكروا مستعمرةً اصطناعيّةً تحاكي أنماط نموّ العَفَن الرغويّ سواء في بيئة حاسوبيةٍ أو فيزيائية، لتصبحَ هذه المستعمرةُ خوارزمياتٍ لتخطيط شبكات محطّات الشحن. فهي تقوم على عدّة مبادئ ذات أساسٍ حيويّ، كمبدأ ذكاء السرب، إذ صُمِّمَت على غرار السلوك الجماعي للحشرات، النمل والنحل تحديداً، فالسلوكيات الطبيعية لهذين النوعَين في الحركة والبحث عن الغذاء تؤدّي إلى حلول فعالة. على سبيل المثال، يقدر النمل على إيجاد أقصر الطرق للوصول إلى الموارد، وهذه مهارةٌ تفيد خوارزميات التوجيه والجدولة، في حين تحاكي خوارزمياتٌ أخرى أسراب الطيور أو الأسماك لتطوّر الحلول في المساحات متعدّدة الأبعاد. كما استلهم الباحثون الخوارزميات الوراثية التي يقوم عليها التطوّر الطبيعيّ، كالاختيار والتزاوج والطفرات، وبنوا منها حلولاً لمشكلات التحسين المعقّدة في الجدولة وتخصيص الموارد والتعلّم الآليّ.
يقدّم هذا النموذج مقارباتٍ لجانبَين مهمَّين. الأول هو تحديد المواقع المثلى لمحطّات الشحن، بأخذ عدّة عوامل في الاعتبار، مثل القرب من مراكز الطلب وأنماط حركة المرور وإمكانية الوصول. والثاني هو التوجيه الفعّال للمركبات، حيث يعمل النموذج على تحسين مساراتها وتقليل المسافة المقطوعة والوقت المستغرق والتكاليف المالية والازدحام والأثر البيئي العام، بينما يأخذ في الحسبان عنصر التوزيع العادل لمحطّات الشحن.
للتحقّق من صلاحيته للاستخدام العمليّ، خضع النموذج لاختباراتٍ مكثَّفةٍ على شبكات الطرق الحقيقية. واليوم، تستكشف البلدان في مختلف أنحاء العالم تقنياتٍ مماثلة، ففي اليابان، يستخدم الباحثون خوارزمياتٍ مستوحاةً من الشيفرات الحيويّة لتحسين شبكات النقل والخدمات اللوجستية. وفي سنغافورة، تتضمن مبادرات المدن الذكية تقنيات التحسين المستوحاة من البيولوجيا. وفي ألمانيا أيضاً، يستوحي العلماء من علوم الأحياء طرقاً لتعزيز حركة المرور وتخطيط البنية التحتية، كما تشاركها العديد من المدن الأمريكيّة التي تراقب كيفية حلِّ الطبيعة للمشكلات، لكي تستكشف حلولاً تشبهها لتصميم الشبكات وإدارة الموارد.
لا شكَّ أنّ الفكرة واجهت وستواجه تحدّياتٍ متعدّدة، من أبرزها تحديد حجم الموارد ونطاقها، كالطاقة الحاسوبية والذاكرة وتخزين البيانات. كما أنّ إدارةَ هذا النوع من الشبكات الكبيرة ذات المتغيّرات المتعدّدة على أرض الواقع مهمّة صعبة.
أمّا التحدّي الأكثر تعقيداً فهو إدماج مخرجات النموذج مع الأنظمة الحالية مثل نُظُم المعلومات الجغرافية وإدارة حركة المرور، علماً أنّ التوافق مع الأدوات والمنظومات القائمة حالياً عنصر ضروري للغاية.
علاوةً على ذلك، يتطلّب التنفيذ الناجح وجود خبرة كبيرة في مجال الحوسبة. كما إنّ المتطلبات الكبيرة قد تحدّ من التطبيقات الممكنة في الزمن الحقيقي.
حتى الآن، تبشِّر الاختبارات العملية بنتائج واعدة، حيث يقدِّم هذا النموذج حلولاً مستدامةً وفعّالةً لمحطّات شحن المركبات الكهربائية، من تقليل تكاليف الصيانة وتحسين حركة المرور، كما يضيءُ أملاً بتقليل البصمة الكربونية المرتبطة بالبنية التحتية للمركبات الكهربائية.
وبمقاربة عدّة أهدافٍ في آنٍ معاً، يوفّر النموذج نهجاً شاملاً وتجربةً قابلةً للتكرار، حيث تولِّد عملية اتخاذ القرارات اللامركزية والبناء الفعّال للشبكة رؤى قيّمة.
أثبتت هذه التجربة أهمية البيانات الموثوقة لإيجاد حلولٍ دقيقةٍ قابلةٍ للتطبيق على أرض الواقع، بخلاف البيانات غير المكتملة أو القديمة التي تؤدّي إلى نتائج دون المستوى المطلوب.
أما الدرس الأهم، فهو أنّ مفتاح الحلول المستدامة يكمن في الطبيعة من حولنا، وأنّ التعلّم منها سيكون أوّل خطوةٍ لبناء مستقبلٍ أنظف.
المراجع: