في سياق مبادرة المدينة اليابانية الفائقة، اختارت مدينة تسوكوبا تبنّي سياسة تقييم تأثير الخصوصية، التزاماً منها بالاستخدام الأخلاقي للبيانات، فشكّلت سابقةً لحوكمة المدن الذكية من خلال الموازنة بين التقدّم التكنولوجي والحقوق الفرديّة، بهدف تعزيز ثقة الجمهور وتوجيه التنمية الحضرية العادلة.
في مشهد التنمية الحضريّة دائم التطوّر، تقف المدن الذكيّة في طليعة توجُّهَي الابتكار والاستدامة، نسيجٌ معقّدٌ يسخِّر التكنولوجيا ليواجه أكبر تحدّيات العصر، في بعضٍ من الدول الأكثر تقدُّماً رقميّاً في العالم.
بمجرّد التطرّق إلى أيٍّ من هذه المفاهيم، قد يتبادر إلى الأذهان مدن اليابان صاحبة الرّيادة العالميّة في مجال الابتكار التكنولوجيّ، لكنّ الحقيقة أنّ القطاع الحكوميّ اليابانيّ كثيراً ما تخوَّفَ قبل تبنّي أي تطوّرٍ رقميّ، وفي بعض الحالات نقل التردّد إلى القطاع الخاص.
ولأنّ النموّ الحضريّ يحمل مشكلاتٍ معقدّة، تتعزّز قناعةُ اليابانيّين بالرقمنة الشاملة يوماً بعد يوم، وتستدعي من حكومتهم الاستجابة وتطويرَ القدرات الرقميّة وتنفيذ مشاريع المدن الذكية لتعزيز الخدمات العامّة والحيويّة الاقتصاديّة.
عامَ 2022، اختارت حكومة اليابان لطموحِها هذا اسمَ المدينة اليابانية الفائقة "سوبر سيتي"، وأعلنته مشروعاً سيُستكمَل بحلول العام 2030.
بتعريفها البسيط، تدمج المدن الذكية التكنولوجيا لتعزيز الكفاءة والاستدامة ونوعية الحياة، فتركّز على تحليل بيانات المواطنين لفهم الأنماط المعيشيّة والاستهلاكيّة والخدميّة وتحسينها وتحفيز النموّ الاقتصاديّ.
جزَّأت الحكومة اليابانيّة هذه الفكرة إلى 3 عناصرَ أساسيةٍ لمشروعها ترتكزُ كلٌّ منها على الأخرى، بغية تقديم أفضل أداءٍ في الخدمات الحكوميّة والنقل والرعاية الصحيّة والتعليم، وهذا سيعتمد على إنشاء منصّاتٍ للبيانات الحضريّة تسمح بتكامل المعرفة ومشاركتها عبر القطاعات، وقبل كلّ شيء، إجراء إصلاحاتٍ تنظيميةٍ شاملةٍ تسمح بهذه الخطوات الجريئة، مثل قانون المدينة الفائقة، الذي يمكّن البلديات من تعيين "مهندسي المدن الذكية" لتعزيز التعاون بين الحكومة والشركات.
كانت مدينة تسوكوبا من أوائل المنضمّين إلى المبادرة، انطلاقاً من كونها مركز تكنولوجيّ منذ ستينات القرن الماضي ومركز لكبريات المؤسّسات البحثيّة والأكاديميّة. وهكذا، ستجمع سلطات المدينة البيانات روتينيّاً عبر أنشطتها وخدماتها اليوميّة، وستستخدم التقنيّات المتقدّمة في 6 قطاعاتٍ رئيسيّة. أولاً، التنقّل والتوصيل، وهذا يشمل حلول النقل الجماعيّ واستخدام الروبوتات والطائرات بدون طيار في أعمال التوصيل، وثانياً، الخدمات الحكوميّة، من خلال إتاحة التصويت عبر الإنترنت والتطبيق متعدّد اللغات وسهل الاستخدام، أما ثالثاً، فتأتي الرعاية الصحيّة، التي سيتم تعزيزُها وتحسينُها بإدماج البيانات الصحيّة مع نظام "رقَميْ" اليابانيّ. في المرتبة الرابعة، جاءت السلامة والمرونة والبنية التحتية، حيث ستكون مقاربتُها بتقديم الإرشادات الفوريّة بشأن الإخلاء في حالات الكوارث، والتنسيق الطبي في حالات الطوارئ. وحلّ التوأم الرقميّ في المرتبة الخامسة، وهذا يعني إنشاء بنية تحتية رقمية رائدة ثلاثية الأبعاد. وأخيراً، فكرة المركز المفتوح، الذي سيدعم أنشطة ريادة الأعمال والاستثمارات الأجنبيّة ويبسّط إجراءات الشّراء.
لكنّ مزايا الحوكمة القائمة على البيانات تصحبها مخاوف مشروعةٌ تتعلّق بخصوصيّة البيانات وأمنها وحقّ المواطن بحماية سريّتِه أو موافقته على رفعِها أو احتمالِ إساءة استخدام معلوماته أو إتاحتِها للوصول غير المُصرّح به، وما يزيد التحدّي صعوبةً هو غيابُ المبادئ التوجيهيّة الوطنيّة الواضحة بهذا الصّدد.
ولأنّها تدرك حساسيّة هذه المسألة، لجأت مدينة تسوكوبا إلى المركز الإقليميّ للتحالف العالميّ للمدن الذكيّة، التابع لمجموعة العشرين، وطلبت المشورة حول استخدام ما يسمّى "تقييمات تأثير الخصوصيّة"، وهي مجموعة من العمليّات التي تحدّد مخاطر الخصوصيّة وطرائق إدارتها عبر دورة حياة البيانات. وبناءً على هذه المشورة، تبنّت تسوكوبا مبدأ "عدم الإضرار" الذي يضمن أمن بيانات المواطنين والتزام الشفافيّة القصوى معهم ليلعبوا دورَهم المركزيّ في الرحلة.
ولضمان الشموليّة، أنشأت تسوكوبا مجموعة مناقشةٍ تضمّ أصحاب المصلحة من خبراء قانونيّين وأكاديميّين ومتخصّصين في سياسات الخصوصيّة وموظّفين في البلديّات وممثّلين عن السكّان والقطاع الخاص، ليبنوا فهماً مجتمعيّاً للمشروع ويعملوا لتعزيزه، حيث تناقش المجموعة عدّة أسئلة، فتسأل مثلاً: "ما التحدّي الراهن؟ وأين تكمن أهمية التقييمات؟"، لتحدّدَ "الغرض"، أو تقول: "ما الخصوصية؟ ما المنطقة المستهدَفة؟"، لتصوغَ "التعريفات"، وتفكّر: "كيف يمكننا تقييم النتائج؟ ومن يتولّى ذلك؟ وما هي معاييره؟" لتفهمَ "التقييم"، وتتناول السؤال القائل: "كيف ستُعلن نتائج التقييمات للعامّة؟" لترسمَ شكلَ "المشاركة"، وتجيب على تساؤل: "ما الجزاءات المناسبة لمن يرفض تقديم المعلومات اللازمة؟" لتحسمَ "العقوبة".
عموماً، لا بدّ للحكومات من بنى تنظيميّة واستراتيجياتٍ متينةٍ لإدارة البيانات بوعيٍ ومسؤوليّةٍ كافيَين لكسب ثقة العامّة، ولا يمكن لهذه الثورة الحَضَريّة أن تتقدّم ما لم تجد التوازن بين الآفاق الواسعة للمدن الذكيّة من جهة والتزامها الأساسيّ بصون الحريّات الفرديّة للناس من جهة أخرى.
مع أنّ المشروع ما يزال في مراحله المبكرة، تطمح تسوكوبا إلى أن تكون مدينةً شاملةً تحقّق الرفاهية والأمان لجميع مواطنيها، مهما كانت كفاءاتُهم ومهاراتُهم الرقميّة، وتفتح لهم البابَ للتعاون مع بعضهم ومع حكومتهم، وتتطلّع إلى تعزيز الشفافية وثقة الجمهور ومنع انتهاكات الخصوصية وضمان الامتثال التنظيمي وتمكين مسؤولي المدينة من اتخاذ قرارات مستنيرة فيما يتعلق بالبيانات والتكنولوجيا.
وعلى مستوى أعلى، تَعِد تجربة تسوكوبا بإرساء نموذجٍ مرجعيٍّ لبقيّة البلديّات اليابانيّة لتطوير سياساتها الخاصة لتقييمات تأثير الخصوصية ومشاريعها الذكيّة.
في المدن الذكيّة توفّر التقنيّات الثوريّة فوائد كبيرةً على صعيد الحوكمة الرشيدة ورفاهية المجتمع، بدءاً بكفاءة الإدارة والصيانة، مروراً بأتمتة الخدمات، وليس انتهاءً بتعزيز البيانات المفتوحة ودعم الاستجابة للطوارئ.
المراجع: