لمواجهة التحدّيات الصحّية التي تهدّد سكان جنوب أفريقيا، بحث العلماءُ عن المفتاح في مورِّثاتِهم، فانطلقت مبادرةٌ باسم الطبّ الدقيق، الذي يصمّم التدخُّلات العلاجية بناء على الخصائص الفردية، بدلاً من تطبيق بروتوكولاتٍ موحَّدةٍ على جميع المرضى.
لآلاف السنين، يخوضُ نوعنا معاركَ بقاءٍ مع المرض، ويبحث المعالِجون فيما يستكشفون أنماطَ استجابتنا، لماذا يتعافى البعض ويعاني غيرُهم طويلاً؟ ولماذا تتشابه الأعراض والاستجابات جيلاً بعد جيل؟
تُلِحُّ هذه الأسئلة أكثرَ كلَّما تعقَّد المشهد، كما هي الحالُ في جنوب أفريقيا التي ترزح تحت عبءٍ صحيٍّ ثقيل، من المعدَّلات المرتفعة للأمراض المعدية كفيروس نقص المناعة البشرية والسلّ، إلى الأمراض غير المعدية كالسرطان والسكري ومشاكل القلب والأوعية الدموية، إذ تتزايد الأخيرةُ بسبب تغيّرات نمط الحياة والعوامل الاجتماعية والاقتصادية، بالإضافة إلى ما تتعرّض له صحة الأم والطفل من تهديد بسبب ضعف الوصول إلى الخدمات وعدم كفاية التغذية، وحتى حوادث الطرق والعنف التي ترفعَ معدّلات الاعتلال والوفيات.
لكنَّ مجلس البحوث الطبية في جنوب أفريقيا قرّر الاستفادة من خصوصيّة البلد وإدماج البحوث الجينومية في الممارسات الطبية اليومية، فتعاون مع وزارة العلوم والابتكار وشركة "إم جي آي" الرائدة في تقنيات تسلسل الحمض النووي، لإدخالِ الطبّ الدقيق، المعروف أيضاً باسم الطبّ المخصّص، إلى الممارسات الطبية المُعتمَدة عبر تطوير منتجاتٍ عالية الجودة ومصمّمة للسياق الأفريقي.
يُقِرُّ الطبّ الدقيق بتفرُّد كلِّ شخص، ويأخذ في الحسبان عواملَ مثل تركيبتِه الجينية وأسلوبِ حياته وبيئتِه وتاريخِه الصحيّ، فيصمّم له علاجاتٍ خاصة. على سبيل المثال، بدلاً من استخدام العلاج الكيميائيّ التقليديّ لمريض السرطان، يحدِّد الطبّ الدقيق الطفراتِ الجينيةَ المحدّدةَ في الورم، لتركِّزَ العلاجاتُ المستهدفة عليها، وتهاجمَ الخلايا السرطانية مع الحفاظ على الأنسجة السليمة. كما يلتفت هذا النهج لمسألة تباين استقلاب الأدوية ولعلم الصيدلة الجينية، إذ تختلفُ استجاباتُنا للجرعات بسبب اختلافاتنا الجينية، وعليه، يمكن لفهم العوامل الوراثية الحدُّ من المضاعفات.
يمثِّل فهم التنوع الجيني في جنوب أفريقيا عنصراً محورياً لعدّة أسباب، فأفريقيا مهدُ الطيف البشريِّ الواسع، وثراؤها الجينيّ يفوق أيّة قارةٍ أخرى، وليست المجموعات السكانية الأخرى سوى فروعٍ للتنوّع الأفريقيّ المَهول، وذلك بسبب الديناميكيات السكانية التاريخية والهجرات وأوجه التكيّف الوراثيّ التي تطوّرت استجابةً للمناخات والأنظمة الغذائيّة المتنوّعة، فضلاً عن التعرّض للأمراض المعدية. وفي أفريقيا، تنخفضُ معدّلات اختلال التوازن الارتباطيّ، وهو في علم الوراثيات السكّانية خاصيةٌ تصف العلاقات غير العشوائية بين السمات الوراثية المختلفة. وإذا كانت هذه الاختلالات أقل، سيكون رسمُ خرائط المتغيِّرات المتعلّقة بالأمراض أكثرَ دقّةً وموثوقيّة. بالتالي، من خلال دراسة السمات الوراثية المميّزة للمجموعات العرقيّة التي تستوطن أفريقيا، يمكن توفير رؤى كُليّةٍ حول التطور البشري والتكيف والقابلية للإصابة بالأمراض.
للاستفادة من هذه الخاصية، احتاج الشركاء إلى إرساء بنيةٍ تحتيةٍ متينةٍ لتسلسلٍ جزيئيٍ كاملٍ، عالي الإنتاجية وميسور التكلفة لتمكين البحث الداخلي. كما تبنّى المشروع نموذج الشراكات الاستراتيجية في مجال الصحة، ولجأوا إلى التعاون العابر للحدود عبر مشاريع مثل برنامج الاتحاد الأوروبي للطب الدقيق في أفريقيا لتبادل الخبرات وبناء القدرات، إلى جانب اتحاد الطب الشخصي بين الاتحاد الأوروبي وأفريقيا (هورايزون 2020) الذي يساعد على سد الفجوات المعرفية بين أفريقيا وأوروبا، ووضع خارطة طريقٍ للطبّ المخصّص عبر تلبية الاحتياجات وجلب الخبرات التكنولوجية والتمويل وتحفيز البحث والابتكار المحليَّين.
كعادته، يفرض اجتيازُ العتبات الكبيرةِ تحدّياتٍ كبيرةً أيضاً، وفي التجربة الجنوب أفريقية، سرعان ما برزت فجوة الاستثمار التاريخية، حيث لم تتلقَّ القارّة استثماراتٍ كافيةً في مجال البحوث الجينومية. وبالنتيجة، قد لا تنطبق العلاجات المطوّرة في أماكن أخرى على الأفارقة بالكامل وقد يعانون مضاعفاتٍ خطيرة. والحقيقة أنّ التطوّر التكنولوجيّ يقدّم مقاربةً لهذا التحدي ويجعل تطوير الأدوية أكثر سهولةً وفعالية، إلى جانب تسارع جهود البلدان الأفريقية عموماً على بناء القدرات وإرساء البنى التحتية لتمكين الباحثين ورسم خرائط شاملةٍ للتنوّع الجينيّ لقارّتهم.
بينما يعمل الباحثون على فكّ شيفرات الحمض النوويّ، يواجهون متغيِّراتٍ جديدةً تُسمّى المتغيّرات مجهولة الأهمية، وهي عبارةٌ عن تغيراتٍ جينيةٍ قد تكون مرتبطةً أو غير مرتبطةٍ بالمرض. كما قد يصطدم عملهُم بنتائج عرَضية، وهي الاكتشافات غيرُ المتوقّعة، حميدةً كانت أو ضارّة. ويفرض هذا تحدّياتٍ أخلاقيةً وتساؤلاتٍ حول كيفية التعامل مع المعلومات الوراثية بمسؤوليةٍ وشفافيّة. وللتعامل معها، لا بدّ من استخدام الاستشارات الحيوية لمساعدة المرضى في فهم النتائج وآثارها.
علاوةً على ذلك، ستحتاج منظومة الرعاية الصحية إلى إصلاحاتٍ واسعة النطاق، والكثير من الموارد لتمويل الأبحاث، وضمان إدماج الطبّ الدقيق بسلاسةٍ في آليات العمل المُعتمَدة في البلاد.
يقلل هذا النهج من الآثار الجانبية للأدوية ويحسِّن النتائج ويساهم في تحقيق المساواة في الرعاية الصحية ومعالجة هذه الأزمات الصحية المتداخلة.
ومن خلال التعاون والعمل المشترك، تطوِّر جنوب أفريقيا بنيةً تحتيةً جينوميةً متطوِّرةً واسعة النطاق وبأقلّ استثمارٍ ماليٍّ ممكن.
لن يكونَ فهمُ الجينوم الأفريقي مرتبطاً بتحسين الرعاية الصحية المحلية فحسب، بل سيضع جنوب إفريقيا في موقع الريادة العالمية في مجال البحوث الجينومية، وسيمتد تأثيره أبعدَ منها، فيُنتِج رؤى جديدة حول التنوع البشري والتطور والأمراض ويمهِّد الطريق لمستقبلٍ أكثر صحة.
المراجع:
- https://www.news-medical.net/news/20230504/The-African-Personalized-Medicine-Agenda.aspx
- https://www.glopid-r.org/articles-newsletter/the-south-african-medical-research-council-samrc/
- https://www.samrc.ac.za/sites/default/files/2023-05/PrecisionMedicine.pdf
- https://www.euafrica-permed.eu/wp-content/uploads/2022/02/South-African-Precision-Medicine- Program.pdf
- https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC2953791/#:~:text=Africa%20is%20an%20important%20region,phenotypic%20variation%20in%20African%20populations.
- https://www.samrc.ac.za/research/extramural-research-units/precision-and-genomic-medicine
- https://journals.co.za/doi/pdf/10.10520/EJC-114a603d90
- https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC10546210/