بهدف تعزيز سبل العيش الزراعية المستدامة، بادرت حكومة ولاية كيرالا الهندية بابتكارٍ أسمته "منصة الأغذية"، وسَعَت من خلاله إلى إنشاء شبكة تعاونياتٍ عبر مختلف القطاعات، من الزراعة إلى منتجات الألبان وتوزيع الأغذية العضوية وغيرها، وذلك لمقاربة التحدّيات التي تواجهها وزيادة متانة منظومتها الزراعية وشفافيّتها وعدالتها.
على مدى قرون، كانت الزراعة عماد الحضارة الإنسانية، تُقيتُ الناس وتشغِّلُهم وتدعم مجتمعاتهم، لكنّ التطوّر المتسارع للعالم يضع التوازن الدقيق لهذه الممارسة القديمة أمام تحدّياتٍ غير مسبوقة.
في الهند مثلاً، تجتمع عوامل كالحيازات الزراعية المجزَّأة والتضاؤل المستمرّ للموارد وغيرها فتولِّد مشهداً ينذر بالخطر. بعض الولايات بدأت تلمس هذا الخطر، ومنها ولاية كيرالا، فمساهمة قطاعِها الزراعيّ في ناتجها المحليّ الإجماليّ آخذةٌ في الانخفاض، لا سيما أنّ المزارعين يفتقرون لقوّة التفاوض على قيمة عملهم، لأنّ ملكيات أراضيهم صغيرةٌ ومتفرِّقة، فلا صوتَ جماعياً فعّالٌ لهم في السوق، ولا أنماطَ اقتصاديةً كبيرةً أو واسعةَ النطاق. وفوق ذلك، تعاني المنظومة الزراعية في كيرالا انخفاضَ الشفافية وعدمَ الانتظام في تسعير المنتجات العضوية، ما يجعل أسعارها غير منصفةٍ في معظم الحالات، خاصةً مع تعدُّد مراحل سلسلة التوريد ووسطائها وعملياتها.
لهذا، تعاون مجلس كيرالا الاستراتيجي للتنمية والابتكار مع بنك "بالياكال" التعاونيّ الخَدَميّ لإطلاق مشروعٍ تجريبيّ يقدّم حلّاً لكلّ هذه القضايا، وهو منصة كيرالا للأغذية، التي تنشط على مستوى منطقة "إيزيكارا" حالياً، وهي بمثابة بنيةٍ تحتيةٍ رقميةٍ موحّدة، وقابلة للتخصيص والتطوير المحليّ والعالميّ، وجامعةٍ للأدوات والخدمات اللازمة للاتصال بالسوق، وقادرةٍ على التكيّف مع النُّظُم البيئية الزراعية المحلية، فهي تربط جميع أصحاب المصلحة في سلسلة القيمة الزراعية، بمن فيهم المزارعون والمراكز الاستشارية والإرشادية ومقدّمو الخدمات الائتمانية واللوجستية وغيرُهم.
أنشأ البنك مجموعاتٍ للمساعدة الذاتية في 7 قطاعات، وهي إنتاج الفاكهة والخضروات ومنتجات الألبان والدواجن والنباتات الطبية ومصائد الأسماك وزراعة الزهور. وتتيح المنصة للجمعيات التعاونية دمج المزارعين بكفاءة وتسويق منتجاتهم تحت علامة تجارية موحدة، والترويج لها باعتبارها آمنة وقابلة للتتبع.
علاوةً على ذلك، تحاول المنصّة أن تسهّل شراء المنتجات العضوية المحلية على المستهلكين، فأُرفقت بتطبيقٍ للهواتف الذكية يدعم الزراعة المستدامة، ومصمَّمٍ لتلبية متطلّبات سلامة الغذاء والأمن، كما يراعي حوكمة البيانات العادلة لحماية حقوق الخصوصية. تستفيد المنصّة من التنبؤات القائمة على الذكاء الاصطناعي، فتستخدم بيانات التعاملات التي تجري عبرَها لتَبْني ديناميكيات العرض والطلب وحلقات الإنتاج ومسارات التوزيع على نحوٍ يزيد عائدات المزارعين ويضمن العدالة للمستهلكين.
تتبنّى المنصة ممارسات الاقتصاد التشاركيّ وترمي لربط هيئات الحكم الذاتي المحلية والهيئات المحلية الحضرية بالمبادرات الاقتصادية المحلية، كما أنّها تراعي خصوصية المجتمع، فتدعم مثلاً استخدام لكنة سكان المنطقة.
إجرائياً، في حين يعمل موظّفو البنك على الإدارة الرقمية للمخزون وتحديث بيانات الكميات المتوفرة من المنتجات النباتية بانتظام، يمكن للمستهلِكين طلب البضائع باستخدام خيار "عربة التسوّق" الذي يتيحه التطبيق أو عبر "واتساب" بكلّ بساطة، وسيكون مجرّدُ تأكيدهم للطلب كفيلاً بتعديل بيانات المخزون تلقائياً، ليتولّى موظّفو التعاونية تسليمَ الطلبات باستخدام شاحناتٍ وبجهد فِرَق توصيلٍ متخصّصة.
الحقيقة أنّ ما يميّز منصة كيرالا هو أنّها تُشرِك المزارعين بصورةٍ مباشرة، من خلال منظّمات المنتجين الزراعيين، وتقدّم لهم– من خلال الذكاء الاصطناعيّ– تحليلاتٍ تنبؤيةً وإمكانياتٍ للتتبُّع لتدعم اتخاذهم للقرار وإنتاجياتِ حقولِهم وقدرتَهم على إدارة المخاطر.
اليوم، يبني فريق المنصة نموذجاً فيدرالياً لتوسيع منصّتهم، على أن تلتزم عملية الإدماج بالمعايير المعمول بها لضمان العدالة، وأن تعطي رحلة التوسُّع الأولويةَ لإنشاء 3 أنواع من الصِّلات، وهي العمالة الزراعية، ثم المنتجات والخدمات ذات القيمة المضافة، والمنتجات الموحَّدة تحت علامةٍ تجاريةٍ موحّدة.
واجه هذا المسعى تحدّياتٍ كثيرة، كإدماج خطوط الإنتاج والاستهلاك القديمة والجديدة وضمان شفافية البيانات وإمكانية تتبُّعها "من الحقل إلى المائدة"، وكلاهما تطلّب جهداً مَهولاً من الفريق التقنيّ المطوّر للمنصة، إلى جانب الاستعانة بخبرات بعض الأفراد الذين سبق أن شاركوا في إطلاق تجربةٍ سابقةٍ ألهمَت هذا المشروع، وهي تجربة غرفة تجارة دبي ومجموعة أعمال تصنيع الأغذية والمشروبات في العام 2012، حين أطلقت منصة الإمارات العربية المتحدة للأغذية، التي توحّد شركات تصنيع الأغذية والمشروبات في البلاد، وتعزّز الشفافية والتعاون لتسريع الحلول المبتكرة. وقد دعمت المنصة أكثر من 5000 منتَج و1200 شركة و2000 مستخدِم وأمّنت 700 فرصة عمل.
في خطواتها الأولى، جذبت منصة كيرالا 60 – 70 أسرة من المناطق المجاورة، بنيّة توفير تطبيقٍ موجَّهٍ إلى المستهلك عبر متجر "غوغل بلاي".
كما استطاعت المنصة أن تعزّز استخدام الموارد والتكاملَ بين أصحاب المصلحة وسلامةَ الغذاء، وأسهمت في تحسين إمكانية التتبّع وزيادة عائدات المزارعين وراحة المستهلكين، وكلُّ هذا يصبّ في صالح التنمية الاقتصادية المحلية.
إذا نجحت الفكرة في التوسُّع، فقد تمثّل نموذجاً ثورياً على مستوى العالم، وتعزز ممارسات الزراعة الفعّالة والمستدامة.
المراجع: