مع تسابق حكومات العالم للاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي في شتى المجالات سعياً لزيادة فعالية عملية اتخاذ القرار ورفع كفاءة خدماتها وسبر آفاق جديدة في العمل الحكومي، باشرت هامبورغ باختبار فعالية نموذج مبتكر من نماذج اللغات الكبيرة (LLM) أو برامج الذكاء الاصطناعي التوليدي، طورته المدينة الألمانية محلياً ليس بهدف تحسين آليات تقديم الخدمات العامة فحسب، بل ولإعادة تصور إطار عمل تلك الخدمات والارتقاء بها إلى مستويات غير مسبوقة.
تتبنّى مدينة هامبورغ استراتيجية مستقبلية طموحة تهدف إلى تحويل العمل الحكومي من نهج الخدمات الخطي التقليدي إلى نموذج أكثر ديناميكية وتفاعلية وقدرة على التكيف مع تغير الاحتياجات. وقد وجدت المدينة في هذا الإطار أنّ من الضروري دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي بشكل سلس في جميع الأنظمة الحكومية لتصبح الأنشطة والخدمات الحكومية على أفضل صورها من حيث الفعالية والشفافية، ومتوائمة تماماً مع احتياجات سكان المدينة.
صوب هذا الهدف، صممت حكومة هامبورغ نموذجاً تجريبياً للغة الكبيرة، من خلال التعاون بين مجموعة من الدوائر المعنية وشركة تكنولوجيا محلية، يعمل على تقديم المساعدة الفورية والعملية لموظفي الخدمات الحكومية لتسريع وتحسين الإجراءات البيروقراطية في العمل الحكومي، ورفع كفاءة وسرعة إنجاز تلك الخدمات. تم تصميم النموذج ليقوم بأربع مهام أو وظائف متقدمة، هي تلخيص المحتوى المطلوب الذي يوفر للمستخدم قراءة سريعة لأهم المعطيات التي يبحث عنها؛ والمساعدة في البحوث والبيانات الداعمة لاتخاذ القرار؛ وإنشاء نصوص المراسلات والاتصالات لزيادتها وضوحاً وفعالية؛ وتتعلق الوظيفة الرابعة بالحوار والتفاعل بين المستخدم والبرنامج الذكي بهدف إيجاد حلول للإشكالات والمشاكل التي تواجه الموظف بأسلوب مشابه لمنصات الذكاء الاصطناعي مفتوحة المصدر التي نشأت في السنوات الأخيرة مثل "تشات جي بي تي" و "جيميناي".
تم تكليف نحو 100 موظف من عدة دوائر حكومية باستخدام النظام الجديد خلال أداء مهامهم اليومية، بغرض تقييم فعالية وظائفه وقدرته على تلبية احتياجاتهم، بالإضافة إلى تحديد نقاط القوة والضعف، والنواحي التي يمكن إضافتها أو تحسينها، وما زالت المرحلة التجريبية مستمرة. تهدف هذه العملية على الأمد القصير إلى تقديم خدمات أفضل للمواطن، وفي الوقت ذاته فإنها تساهم في إعداد الاستراتيجية والنموذج الأمثل لاستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي على نطاق أوسع على الأمدين المتوسط والبعيد في مختلف الدوائر الحكومية.
تبرز في هذه الأثناء مجموعة من التحديات، يتمثل أهمها في ضمان دقة وموثوقية البرنامج كونهما حجر الزاوية في كسب ثقة المواطن وتبني التكنولوجيا على نطاق أوسع لتعميم الفائدة. ويكمن التحدي المهم الآخر في تخطي القيود المشددة على استخدام البيانات الشخصية داخل الدوائر الحكومية، وفي الوقت ذاته ضمان أمن تلك البيانات وخصوصيتها ضمن البرنامج التجريبي.
بالإضافة إلى ذلك، تعدّ مقاومة التغيير من قبل كوادر الموظفين، خاصة فيما يتعلق بتبني تكنولوجيا جديدة، عقبةً شائعة في مختلف المؤسسات الحكومية أينما كانت. ويعود السبب في ذلك بشكل عام إلى عدم إلمام بعض فئات الموظفين بالتكنولوجيا، ومخاوفهم من صعوبة تعلمها، عدا عن أنّ تبني تكنولوجيا جديدة غالباً ما يسبب القلق لدى البعض في أن تؤدي إلى الاستغناء عن خدماتهم وفقدانهم وظائفَهم. يتطلب التعامل مع هذه المخاوف إعداد استراتيجية متكاملة لإدارة التغيير، تشمل مبادرات تثقيفية وتمكينية وجذب المشاركة الفعالة من موظفي الحكومة. كما أن الخلفيات والاحتياجات المتنوعة للموظفين تتطلب مقداراً من المرونة والتجاوب مع مختلف الحالات والاحتمالات في تصميم البرنامج. ومن جهة أخرى، يدرك القيمون على المبادرة ضرورة التطوير المستمر للبرنامج في عدة إصدارات لإجراء التعديلات والتحسينات اللازمة بناءً على اقتراحات المستخدمين. ستكون قدرة البرنامج على التكيف عاملاً حيوياً في ضمان أن يشعر الموظفين في مختلف الدوائر أنهم معنيون ومشاركون فاعلون في المبادرة وفي جني ثمارها.
الفوائد المتوقعة من استكمال مبادرة مدينة هامبورغ التي تتمحور حول خدمة المواطن عديدة، وتأتي على عدة مستويات. إذ سيساهم برنامج الذكاء الاصطناعي التوليدي، على سبيل المثال، في تبسيط الإجراءات الإدارية بشكل ملحوظ من خلال أتمتة المهام الروتينية والتي لا تتطلب أي مهارات، ما يؤدي إلى توفير في الوقت والموارد ويسمح بالتالي توجيه الموارد الفائضة إلى مهام أكثر تعقيداً وأثراً. كما يؤدي هذا بدوره إلى زيادة إنتاجية الدوائر الحكومية وكفاءتها التنظيمية.
من جهة أخرى، فإن قدرة البرنامج على جمع البيانات والتحاليل ذات الصلة وتلخيصها بسرعة فائقة ستساعد صانعي السياسات بشكل كبير في اتخاذ القرارات المستنيرة في وقتها المناسب، ما يضمن أيضاً أن تكون السياسات والمبادرات فعالة وتنسجم مع الأهداف الاستراتيجية لمدينة هامبورغ. كما سيؤدي البرنامج إلى تمكين الموظفين من خلال توفيره أدواتٍ متقدمةً ذكيةً تساعدهم على أداء مهامهم بسهولة وعلى أفضل شكل، ما يساهم في تعزيز ثقتهم بالنفس ومستوى رضاهم الوظيفي. وستعزز هذه المبادرة مستوى الثقة بين حكومة المدينة وسكانها ورضاهم على أدائها من خلال سرعة استجابتها لطلباتهم وتوفيرها لخدمات حكومية أفضل وأكثر خصوصية.
توفر مبادرة هامبورغ تجربة مميزة وأمثلة يقتدى بها في المدن الأخرى الساعية إلى تبني التوجه العالمي المتمثل في رفع كفاءة الأنشطة والخدمات الحكومية إلى أعلى مستوياتها من خلال دعمها بتقنيات الذكاء الاصطناعي. تشمل هذه الأمثلة أهمية الأخذ بعين الاعتبار احتياجات واقتراحات المستخدم النهائي عند تصميم وتطوير التقنيات الجديدة لضمان أن تضيف تلك التقنيات قيمة حقيقية على مهامه وعمله اليومي. وتتميز مبادرة هامبورغ أيضاً في إيلائها الأهمية لدعم وتدريب الموظفين بشكل مستمر لمواكبة التقدم التكنولوجي. كما كان لمشاركة خبراء وجهات متعددة في تطوير البرنامج دور مهم في الوصول إلى أفضل الحلول.
المراجع: