مدفوعة بالتزاماتها إزاء مواجهة تغيّر المناخ، تعمل الحكومة الإيرلندية على ابتكارٍ يستثمر الحرارة المنبعثة من مراكز البيانات لإطلاق أول شبكةٍ غير ربحيةٍ لتدفئة السكان من مصادر تعتمد على النفايات الحرارية.
في العصر الحالي، يقوم الاقتصاد الرقمي على قرابة 9 ملايين من مراكز البيانات المنتشرة في كلّ مكان، وهي ببساطةٍ مرافقُ تضمّ الأنظمة والمعدّات والتطبيقات والبيانات التي تتيح ممارسة الأعمال التجارية في العالم الحديث بشكل رقمي.
كونها نقاطاً تحتضن آلاف الأجهزة المعقّدة التي تعمل على مدار الساعة، تُعدّ مراكز البيانات من أكبر مستهلكي الطاقة في العالم، إذ تنفرد مراكز التطبيقات السحابية بقرابة 2% من الطلب العالميّ على الطاقة، ومن المتوقع أن تتضاعف هذه النسبة 10 مرات في غضون 3 سنوات. في السيناريوهات التقليدية، تتحوّل معظم هذه الطاقة إلى حرارة مرتفعة، ما يجعل تشغيلَ مراكز البيانات مشروطاً بأنظمة تبريد كبيرة تستهلك الكثير من الطاقة والتكلفة وتخلّف بصمةً كربونية مَهولة.
يختلف هذا العبء من بلدٍ لآخر حسب عدة معطيات، ففي إيرلندا، يتوزّع 70 مركزاً للبيانات عبر البلاد، وينفرد بـ 14% من استهلاك الطاقة، أي أعلى من استهلاك الريف الإيرلندي برمّته، في بلد عُرف لسنوات بكونه صاحبَ إحدى أكبر البصمات الكربونية الأوروبية نظراً لشتائه البارد، فحين يبلغ متوسط درجات الحرارة 4 درجاتٍ مئويةً تحت الصفر، من البديهيّ أن ينفرد قطاع التدفئة بثلث الانبعاثات الكربونية. وبعد أن جعلت الحكومةُ إزالةَ انبعاثات الكربون من قطاع التدفئة هدفاً استراتيجياً وطنياً، تضاعفت مسؤولية المطورين لابتكار حلول تتوافق والسياسات الوطنية وتلبّي شروط البناء الجديدة.
وفي تجربة بارزة، عمل مجلس مقاطعة جنوب دبلن مع وكالة الطاقة المحلية لإنشاء شركة تدفئة خاصة بالمقاطعة، ومملوكة لمجلسها، لتكونَ أول مرفق غير ربحيّ للطاقة في البلاد.
وضع الشريكان مخططاً لتدفئة بلدة "تالاغت" باستخدام الحرارة الفائضة والمنبعثة من مركز البيانات المحليّ التابع لشركة "أمازون" لتسخين المياه حتى 85 درجة مئوية، وتدفئة الأبنية بتكلفة ميسورة وبصمة كربونية منخفضة.
وقد حظي المشروع بتمويل جزئيّ من الصندوق الحكومي للعمل المناخي ومن برنامج "هيت نِت" (Heat Net) التابع للاتحاد الأوروبي، والذي يسعى لتعزيز ممارسات خفض الانبعاثات الكربونية وتجديد قطاع التدفئة في شمال غرب أوروبا.
بدأ العمل ببناء المنشأة وسط البلدة في موقع يتسم بالازدحام والطلب المرتفع، وينقسم سكّانُه إلى قسمَين، أصحاب الأحمال الحرارية المرتفعة، وأولئك المقيمون على مقربةٍ من مصدرٍ تجاريٍّ كبيرٍ للنفايات الحرارية.
استهدفت المرحلة الأولى الأبنيةَ التابعة للمجلس المحلي، والتي تُعدّ– في عُرف المشاريع– عملاء مضمونين. بعدئذٍ، سيتّسع المشروع ليصلَ إلى جامعة دبلن التكنولوجية القريبة من المرافق المُختارة، والتي تعمل حالياً على توسيع الحَرَم، ما سيسهّل تمديد التوصيلات اللازمة خلال مراحل البناء. كما سيخدِّم المشروع نقاطاً حيويةً أخرى كمركز التسوق الرئيسيّ والمستشفى المحليّ.
في حالات البرد الشديد، أو ما يُعرف بذروة الطلب، يمكن إدماجُ هذه التقنية مع المضخات الحرارية الكبيرة لتحقيق توازن في الشبكة وتوفير تكلفة التخزين وتلبية الاحتياج.
وليست هذه التجربة الأولى في العالمـ حيث قام شركات من القطاع الخاص بتجريب هذه التقنية للاستفادة من الحرارة المنبعثة عن مراكز البيانات في التدفئة. ففي سياتل الأمريكية، تقوم شركة "أمازون" بتحويل حرارة أحد مراكز البيانات التابعة لها إلى أبراج تبريدٍ عملاقةٍ لتدفئة المبنى. أما في الدانمارك، تستخدم شركة "ميتا" الطاقة الحرارية المنبعثة من مركز بياناتها في تدفئة بيوت المنطقة التي تشهد درجات حرارة متجمدة.
بعد أشهر من بدء تشغيل النظام، تباينت آراء الخبراء والسكان المحليين حول كفاءَته وفوائده الاقتصادية وأثره البيئيّ، حيث أنّ جزءاً من الحرارة يتلاشى قبل أن يصل إلى الأبنية المستهدفة، كما أنّ رحلته إليها عبر شبكة من الأنابيب تحت الأرضية تستهلك قدراً إضافياً من الكهرباء، ناهيك عن تلك اللازمة لتشغيل المضخات الضرورية لتدفئة المساحات الكبيرة، فالحرارة المنبعثة من مراكز البيانات تتراوح بين 35 إلى 40 درجة مئوية لا أكثر. بالمقابل، فإنّ نقل الحرارة عبر الهواء سيؤدي إلى خسارات أكبر. وفي السياق نفسه، قد يصعب تطبيق هذا الحل في الأرياف حيث تنخفض الكثافة السكانية وتفصلُ مسافات كبيرة بين المنازل، وذلك لافتقارها لشبكات الأنابيب اللازمة لنقل الحرارة.
بيدَ أنّ بعض الدراسات تشير إلى أنّ توليد الطاقة من مصادر غير تقليدية كمراكز البيانات كفيلٌ بتوفير ما يصل إلى 10% من إجمالي الطلب الأوروبيّ على طاقة التدفئة وتسخين المياه، ويأمل كثيرون أنّ الجهود البحثية كفيلةٌ بالوصول إلى الطرق المثلى للاستفادة من هذه النفايات الحرارية.
إذا ما طُبِّقَت هذه التقنية بالشكل الملائم، فستحقق توفيراً بنسبة حوالي 10% مقارنة بالخيارات الأخرى، كما أن رأس المال المطلوب لتشغيلِها أقلُّ بـ 53% من تكلفة تركيب مضخة حرارية، إلى جانب التخزين الحراري الذي يتيح اعتمادَ أسعار الكهرباء الليلية. وبحساب قيمة المساحة اللازمة لأسطوانات الماء الساخن، ترتفع هذه النسبة إلى 60%، كما أنّ تكلفة صيانتها منخفضة، فهي لا تحتوي أجزاء متحرّكة أو وحداتٍ مركزيةً لإنتاج الطاقة، ما يسهّل المراقبة وإصلاح الأخطاء. ولأنّ شركة مقاطعة جنوب دبلن للتدفئة مؤسسةٌ غير ربحية، فستتم إعادة استثمار العائدات السنوية في الشبكة لخفض تكاليفها أكثر. أما على المستوى الحكوميّ، فهي تلبّي اللوائح والسياسات بطريقة فعالة ومبتكرة.
تشغيلياً، يتميز هذا الابتكار بكونِه أقلّ ضوضاء وأكثر كفاءة من الأساليب التقليدية، وبأنه سيخفّض البصمة الكربونية بمقدار 1500 طنٍّ سنوياً بينما ينقل حرارة مصدرٍ متجدّد لتدفئة 1.6 مليون بيت.
المراجع:
https://www.codema.ie/images/uploads/docs/TDHS_Marketing_Brochure_for_Developers.pdf