قطعت التكنولوجيا شوطاً هائلاً فزادت المهام التي تستطيع الآلة تأديتَها، حقيقةٌ تستفيد منها مؤسسات الخدمات البريدية حول العالم فتسعى لجعل الروبوتات جزءاً من الطواقم العاملة على فرز الطرود وتسليمها، وذلك لتوفير الوقت والجهد وتقليص هامش الخطأ.
ألهمت فكرة توصيل الرسالة ومهنة ساعي البريد عشرات وربما مئات المبدعين الذين تخيلوا قصصاً تبدأ أو تنتهي في مكاتب البريد، لكنّهم على الأرجح لم يتخيّلوا أن تصل التكنولوجيا إلى حيث يكون أبطالُ هذه القصص رجالاً آليين.
تعيش كلٌّ من اليونان وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والنرويج بعضاً من هذه القصص، حيث تعاني هيئاتُها البريدية العديد من أوجه القصور التشغيلية، خاصةً وأنّ فرز الطرود يتم يدوياً ضمن عمليةٍ تستغرق الكثير من الوقت والجهد وتتسم بهامش خطأٍ كبير وتأخيرٍ في تسليمها للعملاء وتكبيد مقدِّمي الخدمات خسائر كبيرة، وهذا يعوق تقديمَ خدمةٍ حيويةٍ يتزايد الطلب عليها مع تكريس توجُّه التسوّق عبر الإنترنت الذي أصبح الآن سلوكاً راسخاً في عالم ما بعد الجائحة.
لإحداث تغييرٍ جذريّ، تستخدم بعضٌ من مراكز البريد أجهزةً تُعرف بـ"الروبوتات المتنقّلة ذاتية التحكم"، وهي تستخدم أجهزة الاستشعار وتقنيات الملاحة لدراسة البيئة المحيطة لنقل الأشياء ضمن مساحة مفتوحة دون تدخّل بشريّ.
في اليونان، رفدَ مركز هيلينِك البريديّ في العاصمة أثينا، فريقَه بـ55 روبوتاً صغيراً رباعيّ العجلات يعمل بالذكاء الاصطناعيّ ومزوَّدٍ ببطارياتٍ يتم شحنُها لمدة 5 دقائق لكي تزوِّد الروبوت بالطاقة الكافية للعمل 4 ساعاتٍ متواصلة.
لكي تعرف إلى أين ستتجه، تقوم الروبوتات بمسح الرمز البريديّ وتحديد وزن الطرد لتوصله إلى الفئة المناسبة من بين عدة خيارات موزّعةٍ على منصة كبيرة. وفق هذه الآلية، تستطيع الروبوتات التعاملَ مع 168 ألف طردٍ يومياً بأوزانٍ تصل إلى 15 كيلوغرام.
ليست هذه التجربةَ الأولى من نوعها بالطبع، إذ تبدو هذه التقنية حاضرةً في مراكز البريد في مناطق مختلفةٍ من العالم، حيث تعمل على فرزِ الطرود وإيصالها في العديد من الدول المتقدّمة حول العالم.
في ألمانيا، أطلقت هيئة الخدمات البريدية في بلدة هيرسفيلد تجربةً مميزةً حيث ترافق الروبوتات عمال التوصيل في جولاتهم وتساعدهم على حمل الطرود الثقيلة. وقد تمت برمجة هذه الروبوتات بحيث تحاكي في حركتها وتيرةَ ساعي البريد وتستطيع أن تدرك توقُّفَه أو زيادة سرعته لتفعل بالمثل، بينما تحمل أوزاناً تصل إلى 150 كيلوغرام، وهي قادرةٌ على تفادي العقبات واجتياز المطبات والعمل في مختلف الظروف الجوية.
في الولايات المتحدة الأمريكية، أطلقت هيئة الخدمات البريدية في العام 2018 برنامجاً تجريبياً شاملاً للاستعانة بالروبوتات في إنجاز المهام الرتيبة والمستعجَلة خلال ساعات الذروة ضمن استثمارٍ سيستمرّ لعقدٍ من الزمن بميزانيةٍ تفوق 40 مليار دولار.
على سبيل المثال، احتضنت ولاية فلوريدا تجربتَين في كلٍّ من أورلاندو وتامبا، حيث تعمل الروبوتات مع العمال الذين يفحصون الطرود عبر الماسح الضوئيّ لإدخال معلوماتها إلى الحاسوب، ليقومَ بتوجيه الروبوتات إلى الصناديق الصحيحة، وهناك، ينتظر عمال آخرون إيصالها إلى وجهاتها.
بالمثل، تعاونت هيئة البريد الحكومية بروسيا مع شركة خاصة للبدء بإدماج الروبوتات ضمن منظومتها التي تشمل 38 ألف مركزٍ تتعامل مع أكثر من 108 مليون طردٍ كلّ عام. وسيستهدف المشروع بدايةً 27 مكتباً بريدياً في العاصمة موسكو، حيث سيعمل 36 روبوتاً على إيصال الطرود إلى المناطق القريبة مع ترك الخيار في أيدي متلقّيها وتمكينِهم من متابعة مسار الطرد باستخدام رمز تحقُّقٍ خاص.
أما النرويج، فقد اجتازت عتبةً أخرى، حيث موّلت وزارة النقل والاتصالات تطويرَ روبوتٍ مستقلٍّ لتسليم الطرود إلى وجهاتها خارج ساعات العمل. مرّ هذا البرنامج بسلسلةٍ من الاختبارات التي بيّنت أنه سيواجه تحدياتٍ كثيرةً أبرزُها الحاجة إلى برامج توجيهيةٍ ذكيةٍ عالية التقنية تمكّن الروبوتات من التنقّل بين الناس في البيئات الحضرية بسلاسةٍ وأمانٍ ودون معين. وهذا أمرٌ صعب، إذ لا يمكن التكهّن بسلوكيات الناس جميعاً، ولا استبعادُ النزعات التخريبية التي قد تظهر لدى بعضهم، كما ينبغي أن تُبرمج الروبوتات للتعرّف على كل العناصر التي قد تصادفها في شارعٍ عاديّ كأعمدة الإنارة وإشارات المرور والأرصفة، ولا بدّ من وسائل لتمكينها من العمل في الظروف الجوية القاسية وشقَ طريقها على الجليد أو تحت الثلوج.
أمام كلّ هذه التحديات، من المُستبعَد أن تعمل هذه الابتكارات في مناطق مكتظةٍ قبل أن تحقّق أعلى نسبةٍ ممكنةٍ من الفاعلية في أداء الوظائف البشرية. وحتى ذلك الوقت، يجادل البعض بأنّها ستحتاج ممراتٍ خاصةً بها لحمايتها من العوامل الخارجية، وخاصةً في مراكز المدن الكبرى.
يتخوّف معارضو هذه التقنية من أن تحلّ الروبوتات محلّ البشر وتؤثّر على فرص العمل، لكنّ الشركات المطوِّرة تتمسك بالقول إنّ رؤيتها هي إدخال عنصرٍ مكمِّل للجهد البشري وليس بديلاً عنه. إذ تستطيع بعض نُسَخ هذه الروبوتات العملَ في ظروف الطقس الشديدة من الحرارة المرتفعة إلى البرد القارس.
في اليونان، تتولّى الروبوتات اليومَ 80% من عمليات فرز الطرود لتجعلَ العمليات أسرعَ بـ3 مرات، وهذا يعني ضمان تسليم الطرود في اليوم التالي لإرسالها.
فيما تفرز الروبوتات في التجربة الأمريكية ما يصل إلى 3500 طردٍ يومياً خلال أوقات الذروة، فتخفّف العبء عن العمال.
أما في العاصمة النرويجية أوسلو، فتأمل السلطات أن تساعدها تجربة الروبوتات في استكشاف آفاق زيادة الاستدامة والكفاءة في سلاسل التوريد اللوجستية.
وعموماً، تَعِد هذه التطبيقات بفتح الآفاق لخدماتٍ جديدةٍ وخدماتٍ مُحسَّنةٍ في مجال التوصيل.
المراجع:
https://www.reuters.com/article/us-deutsche-post-robot-idUSKBN1C9213
https://www.mynews13.com/fl/orlando/news/2021/12/23/usps-uses-robots-to-deliver-the-holidays#
https://www.computerweekly.com/news/252450906/Postal-delivery-robots-trialled-in-Norway