أمام تناقضٍ حادٍ في امتداد المساحات الخضراء بين غربِ أوستن وشرقِها، ولتحقيق الإنصاف، وضعت حكومة المدينة أداةً لتحديد أولويات التشجير في متناول جميع المعنيّين ببيئة المدينة وصحة سكانها.
يمكن للغطاء الأخضر في منطقة ما أن يشير إلى الكثير مثل جودة هوائها وطقسِها وحتى منتجاتِها. لكنّه في بقاع كثيرةٍ يُعدُّ مؤشِّراً اجتماعياً مهماً، فقد يدلُّ على الحالة الاجتماعية لمجموعة عِرقية ما وعاداتِها ودخلِها.
وتعد مدينة أوستن بولاية تكساس الأمريكية واحدة من تلك البِقاع. حيث أوضحت هيئة الغابات الأمريكية أنّ الفارق في معدّلات انتشار الأشجار بين شرقِها وغربِها بلغَ درجاتٍ صارِخة. إذ تظلِّل النباتات الخضراء 78% من مساحة الجزء الغربيِّ، في مقابل 22% في الجزء الشرقيّ، الذي كان تاريخياً موطناً لمجتمعات الأقليات العرقية. فخلال خمسينات القرن العشرين، صنّفت لجنة التخطيط الأراضي الشرقيةَ بكونِها "صناعية"، ما أدى لنقصٍ حادٍّ في الغطاء الأخضر وأثّر على جودة الحياة في المنطقة وتسبّب بارتفاع درجات الحرارة وألحقَ بأجيالٍ من السكان أضراراً جسيمةً، زادتها طبيعةُ الرياح الشرقية التي تحمل معها غبارَ الجزء الغربيِّ وملوِّثاتِه.
تجلّى هذا الواقع بينما كانت السلطات تجمع البيانات تنفيذاً لخطة المناخ. وعند رسم أول خريطة أشجار في العام 2015، انصبّ التركيز على تحديد أماكن غرسِها، ولم تكن العدالة في توزيعها سوى اعتبار ثانويّ. ومع تعمُّق البحث، اتّضح الارتباطُ بين التهميش الاجتماعيّ لفئةٍ ما وتدنّي نسبة الغطاء الأخضر حولَ مساكنِها.
وحيث تغيَّرت الأولويات الحكومية في عموم الولايات المتحدة في أعقاب الاحتجاجات التي جابت شوارعها مطالبةً بالعدالة الاجتماعية بين الأعراق المختلفة، أصبح تحقيق العدالة محوراً مهماً لخطة حكومة أوستن للمناخ، التي استمرت بعد العام 2020 بشكلٍ جديد تشارك فيه عدة هيئات كالإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي ومراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها.
ستتجه الخطة الجديدة إلى تغيير حياة الناس بتحسين الصحة العامة واحتواء تأثيرات الجزر الحرارية، مع التركيز على الهدف الأهم، وهو مواجهة تغيّر المناخ.
لوضع خريطة الأولويات، بدأ المركز المجتمعيّ لحماية الأشجار التشاورَ مع الجهات الفاعلة والمزارعين والطلاب وغيرهم، حيث تطابق الخريطة أولويات المسح مع نقاط البيانات كمعدّلات الظل والحرارة والصحة العقلية والتلوث، ثم تصنِّف المناطق إلى 5 فئاتٍ حسب الحاجة إلى الأنشطة الزراعية وهي: ذات الأولوية الدنيا، والمنخفضة، والمتوسطة، والعالية، والقصوى. وقد قُسِّمَت بحسب 9 مدخلات للبيانات، تم توحيدُها بدورِها لتراعي البيئة ونقاط الضعف الاجتماعية والاستثمار المجتمعي والصحة والرفاهية. وقد أتاحت السلطات هذه الخريطة للجميع بمن فيهم هيئات المدينة وصنّاع القرار، والمجلس الشبابيّ للغابات، الذي أنشأته السلطات ليقدِّمَ دوراتٍ تدريبيةً مدفوعة ويساعدَ الشبّاب لإيجاد وظائف صديقة للبيئة ويتيحَ مناخاً للتعاون بين الطلاب والمتخصصين في العلوم الطبيعية والبيئية.
ولفهم تأثيرات تدنّي عدد الأشجار، شاركت سلطات المدينة في نظام المعلومات الوطنية للصحة الحرارية عبر مشروع لرسم خرائط للجُزُر الحرارية في أوستن. استقطب المشروع المتطوِّعين الذين جالوا الشوارع بسياراتهم حاملين أجهزة تسجِّل درجات الحرارة كلّ بضع ثوان. بعد انتهاء هذه المرحلة، استخدم المختصّون نظام المعلومات الجغرافية لاستنتاجِ قراءاتٍ واسعة النطاق لدرجات الحرارة ومقارنتِها بين بقعةٍ وأخرى ثم جمعِها في خريطةٍ تفاعلية.
أظهرت النتائج أنّ فترة الصباح تشهد اختلافاً في درجات الحرارة، حيث ترتفع مع الاقتراب من وسط المدينة. وبما أنّ الهياكل الإسمنتية تمتصّ حرارة الشمس خلال اليوم فتخزِّنُها لتعاودَ نشرَها مساءً، فقد تبيّن أنّها أكثر برودةً على تخوم المدينة، ووصل الفارق إلى 7 درجاتٍ نهاراً و5 درجاتٍ ليلاً. وتتبنّى بلدية أوستن عدة استراتيجيات للتخفيف من آثار الجُزُر الحرارية، كزيادة ممرات المشاة ونقاط انتظار الحافلات وزراعة الأشجار، التي تتنوَّع أصنافُها، وتأتي في مقدِّمتها دردار الأرز، والبلوط، والميس الناعم، وعشبة العرعر. وتُعدُّ الأخيرة ذات الأثر الأهم، فهي تنقّي الهواء وتحتجز الكربون وتتصدّى للفيضانات على مدار العام بوصفها نوعاً دائم الخضرة، لكنّها تفرض تحدّياً كبيراً في الوقت نفسِه، فهي السبب الأول للحساسية في المدينة.
كما ركّزت السلطات على التحديات التي قد تحملها الآفات الزراعية مثل ذبول البلوط، وهو مرض فطريّ يصيب نظام الجذور، وتنقله الخنافس من شجرةٍ إلى أخرى. وقبل ارتفاع درجات الحرارة، تستعدّ المدينة لاحتمال وصول آفات أخرى غير أصلية كحشرة حفّار الدردار القرمزيّ، والكفيلة – في حال وصولِها – بالقضاء على أشجار الدردار بالكامل، والتي يتصدّى لها المختصّون بعدة وسائل كرشِّ المبيدات وتأمين الريِّ الكافي للأشجار.
كانت عمليات المسح السابقةُ قد خَلُصت إلى أنّ 60% من الأشجار التي زُرعت خلال السنوات الخمس الأخيرة تركَّزت في المناطق متوسطة الاحتياج أو الأكثر احتياجاً، حيث تضمُّ المدينة اليومَ أكثر من 33 مليون شجرة تزيل سنوياً حوالي 92 ألف طنّ من ثاني أكسيد الكربون وأكثر من 1200 طنّ من الملوِّثات وتوفِّر قرابة 19 مليون دولار من كلفة استهلاك الطاقة.
في حالة أوستن، تساعد الأشجار على حماية الناس من العواصف والجفاف والفيضانات، فجذورُها تمتصّ مياه الأمطار وتمنع انجراف التربة، كما تخفِّف أطرافُ أوراقِها وصول قطرات المطر إلى الأرض، فتحمي التربة من التآكل.
أما مجتمعياً، فيتيح المجلس الشبابيّ مشاركة المعرفة ووضع أولويات التشجير وتعزيز ثقافة الإنصاف والصحة العامة.
وبطبيعة الحال، يعود الغطاء الأخضر بفوائد لا تُحصى، بدءاً بتنقية الهواء، مروراً بزيادة المناطق المظلّلة وتحقيق درجات حرارةٍ معتدلة، وليس انتهاءً بزيادة الأنشطة الخارجية للسكان ورفع مستوى جودة حياتهم.
المراجع: