للاستفادة من مورد رياحٍ سخيّ تتيحُه مناطق المياه العميقة، بدأت دول كالولايات المتحدة وفرنسا واليابان بتركيب منصاتٍ عائمةٍ وسط البحار، تعلوها توربينات تولِّد الكهرباء من الرياح، مثبّتةً على قواعد مختلفة الأشكال، وفق الميزانية والعمق وتقدير الطاقة المولّدة.
يعد منظر طواحين الهواء القديمة التي اعتاد الناس على رؤيتها في المزارع، وبغض النظر عمّا تبدو عليه من البدائية، مشابهاً لشكل توربينات الرياح التي تمثّل اليوم تقنيةً ثوريةً لتوليد الكهرباء من المصادر المتجددة، والتي تشهد تطوّراً متسارعاً وصل في العام 2021 إلى 17%، حيث ولّدت هذه التوربينات ما مجموعه 830 غيغاوات من الطاقة، 93% منها كانت مصادر بريّة، ما يعني أنّ التقنية لم تستثمر بعد في النقاط التي تبلغ فيها سرعة الرياح أوجها، أي في مناطق المياه العميقة.
على اليابسة، تتقلّب ظروف الطقس كثيراً، وخاصةً الرياح. ففي الاتحاد الأوروبي مثلاً، وعقب سنواتٍ من النموّ شبه القياسيّ لهذا القطاع، جاء العامان 2020 و2021 برياح منخفضة الشدّة، ما خفض الإنتاج بنسبة 3%.
واقع الأمر أنّ المراوح يجب أن تكون على ارتفاعٍ معيّن لكي تحقّق الاستفادة القصوى من طاقة الرياح، حيث يتم تثبيتُها على أعمدةٍ بُرجية، وهذا سهلٌ على اليابسة، ومتوسّط الصعوبة في المياه السطحية. لكن، عند الحديث عن المياه العميقة، فإنّه من غير العمليّ، بل وغير الممكن تثبيتُ هذه الأعمدة في قاع البحر، وحتى إذا تم تثبيتُها، قد ينخفض مستوى القاع في أيّ لحظة نتيجة تحرّك الصفيحات التكتونية.
الأرقام القياسية موجودة، لكنّها لا تنفي حقيقة أنّ توربينات الرياح ما تزال في المراحل الابتدائية، وتنتظر إيجاد طرائق ذكيةٍ واقتصاديةٍ لتحقِّقَ الإمكانات الهائلةَ التي تَعِد بها، كما يجري في الولايات المتحدة واليابان وحوض البحر الأبيض المتوسط.
حملت إحدى هذه الطرق اسم "توربينات الرياح العائمة"، حيث يتم وضع التوربينات في الأماكن التي تكون أكثر عرضةً للرياح العاتية، دون أعمدةٍ تثبِّتها بالأرض الصلبة، وبشكلٍ يجعلها مقاوِمةً للرياح في آنٍ معاً.
أطلقت ولاية كاليفورنيا الأمريكية إحدى التجارب الرائدة في تطبيق هذه الفكرة، مستفيدةً من الرياح البحرية العاتية التي يتميّز بها ساحلُها الشماليّ، وساعيةً لتلبية الطلب الكبير على إمدادات الطاقة الكهرومائية، حيث عقدت الحكومة الفيدرالية مزاداً علنياً عرضت خلالَه على شركاتٍ من القطاع الخاص استئجارَ مساحاتٍ من البحر لإقامة مشاريع "توربينات الرياح العائمة".
من حيث المبدأ، تعمل هذه التوربينات تماماً مثل نظيراتها البرية، إذ حين تهبّ الرياح الشديدة تدفع شفرات المراوح، التي تدور بفعلها، مغذِّيةً المحرّك ليحوِّل هذا الدوران إلى طاقة كهربائية. أما الاختلاف، فهو في موضع تثبيت القاعدة، التي توضَع على منصةٍ عائمةٍ تتكّئ على تجهيزاتٍ أخرى تثبِّت التوربين في مكانه وتحافظ على اتصاله بالكابل الذي ينقل الطاقة المُنتَجة إلى اليابسة.
تأتي هذه المنصّات العائمة بـثلاثة أشكال رئيسية، أوّلُها منصات الصاري، وهو امتداد للعمود الطافي فوق الماء لكنّه تحت السطح. وقد صُمِّمَ بشكل أسطوانةٍ طويلةٍ مجوَّفةٍ لتمكينه من الطفو عمودياً، وزوِّدَ بثِقَلٍ في أسفله لخفض مركز جاذبيته. وبينما يبقى موقعه ثابتاً، يسمح للأمواج بتحريكه بضعة سنتيمترات إلى الأمام والخلف حيث تتولّى مجموعة من الأسلاك غير المشدودة إبقاء حركته ضمن حيّز معين.
أما النوع الثاني، فهو المنصات شبه الغاطسة، والتي تتكّئ على عدة ركائز كبيرةٍ مثبّتة في القاع بتصميمٍ شبيه بالطاولة، وكلّما ازدادت متانة الركائز، ارتفع عدد التوربينات التي يمكن وضعُها على المنصة.
وأخيراً، يُعرف النوع الثالث بمنصة الدعامات المشدودة، وهي أخفّ وزناً وأصغر مساحةً وأقلّ مقاومةً للزلازل والفيضانات. وهذه المنصات عبارة عن هياكل كبيرة مجوّفة من الفولاذ أو الخرسانة، يعمل الهواء المُحتَجز بداخلها على جعلها تطفو، أما الدعامات فتؤمن ثباتاً محدوداً يحول دون جرف الأمواج للمنصة بما تحمله. ويبدو أن سبب اختيار هذه المنصات التي تبدو أقلّ كفاءةً من سابقتيها، هو بساطة تصميمها، الذي يتيح تجميعها بالكامل على اليابسة، من دون تحميل المعدات على متن السفن لتركيبها في الموقع، وهذا يعني تكلفة أقل.
لم يقتصر هذا الابتكار على أمريكا وحدها، إذ انطلقت كذلك عدة مشاريع تجريبيةٍ مشابهةٍ في أوروبا، حيث شرعت فرنسا– ذات أطول خطٍّ ساحليٍّ في القارة– ببناء أول مزرعةٍ عائمةٍ لطاقة الرياح بقدرة 250 ميغاوات.
أما في آسيا، فتبدو الصدارة من نصيب اليابان التي تنبّهت مبكراً إلى هذا المفهوم، وخاضت تجربتها الأولى بتمويلٍ من وزارة الاقتصاد والتجارة والصناعة، واختارت موقعاً على بُعد حوالي 20 كيلومترٍ من ساحل فوكوشيما الذي يتميز برياحٍ لا تقلّ سرعتُها الوسطية عن 7 أمتار في الثانية، ما يؤهّله لإنتاج 14 ميغاوات من الطاقة.
كما احتضنت المملكة المتحدة بضعة مشاريع تعاون فيها القطاعان الحكوميّ والخاص، بتكلفةٍ فاقت 60 مليون جنيه استرلينيّ، بهدف إنتاج 5 غيغاوات من الطاقة بحلول العام 2030.
تواجه هذه التقنية تحدياتٍ كثيرةً، منها أن حركة المنصة قد تزيد القوة المُطبَقة على الشفرات والعمود وتزيد من تعقيد الديناميكا الهوائية وتقلّل ثباتَها. إنها مجازفة كبيرة، خاصة بالنظر إلى تحدي التكلفة الذي يتضاعف كلّما ازداد عمق المياه، والذي يمكن تخفيفُه بتركيب توربيناتٍ أكبر على المنصات، حيث يمكن لكلٍّ منها أن ينتجَ 10 ميغاوات من الطاقة، وهذا أكثر بعدّة أضعافٍ من القدرة الإنتاجية للتوربينات البرية، ما سيقدّم نقلةً هائلةً في طريق الاعتماد الكامل على الطاقة النظيفة.
المراجع:
https://www.gov.uk/government/news/60-million-boost-for-floating-offshore-wind
https://www.iea.org/reports/wind-electricity
https://www.bbc.com/news/science-environment-63300959
https://www.weforum.org/agenda/2022/12/floating-wind-turbines-us/