بهدف تحقيق العدالة الاجتماعية ومستوى أعلى من الإنصاف فيما يتعلق بالخدمات البلدية، توجهت بلدية مدينة "سان خوسيه" الواقعة في كاليفورنيا إلى تبني منهجية مبتكرة لتحليل البيانات التي تجمعها الجهات الحكومية للوصول إلى فهم أفضل حول أسباب غياب العدالة الاجتماعية في الخدمات الحكومية والتي تؤدي إلى تهميش بعض فئات المجتمع.
فيما أصبح من الشائع في مختلف أنحاء العالم استخدام كلمات مثل العدالة والإنصاف في تقديم الخدمات البلدية، توجهت البلديات إلى مراجعة خططها، وإعادة النظر في برامجها، للتحقق من توفر هاتين السمتين. وفي الولايات المتحدة الأمريكية توفر البلديات العديد من الخدمات المجتمعية والتربوية والصحية، التي تهدف في المقام الأول إلى دعم الشرائح السكانية الأدنى دخلاً أو التي تنقصها الخدمات لأسباب عرقية أو ثقافية أو غيرها. ولكن في الواقع، لا تزال هناك عدة فئات تعاني من الاستبعاد المجتمعي وعدم إنصاف الخدمات بحقها. وقد اتضح هذا الواقع بشكل أكثر وضوحاً من السابق، في مختلف المدن الأمريكية، مع تطبيق القيود الرامية إلى الحد من تفشي جائحة كوفيد-19 خلال العام 2020.
حيث دفعت هذه الحالة بلدية سان خوسيه في ولاية كاليفورنيا الأمريكية إلى البحث في الأسباب التي تؤدي إلى عدم استفادة فئات المجتمع من الخدمات البلدية بشكل منصف، وخرجت بمنهجية مبتكرة لتحقيق أعلى مستوى من الإنصاف في الخدمات التي تقدمها لسكانها، أسمتها "تحليل البيانات لتحقيق العدالة الاجتماعية".
وفي بداية الأمر، حولت البلدية العديد من الخدمات التي تقدمها إلى منصات رقمية، مثل الخدمات التربوية، وخدمات التخطيط والتغذية، وإصدار التراخيص، واجتماعات مجلس البلدية وغيرها. وعلى الرغم من أنّ هذا التحول مثّل ميزة جيدة للعديد من سكان المدينة الذين أصبحوا قادرين على الوصول إلى الخدمات والمشاركة بالاجتماعات من أي مكان وفي أي وقت، إلا أنّ ذلك استبعد الفئات الغير قادرة على الوصول عبر الإنترنت، سواء بسبب عدم توافر المصادر المادية أو غياب المهارات الرقمية. وهذه الفئات المستبعدة ليست بالصغيرة، إذ أن سان خوسيه تعد عاشر أكبر مدينة في أمريكا، ومن أكثرها تنوعاً ثقافياً وعرقياً.
وكان أوّل تحدٍّ واجهته مساعي مجلس البلدية ومكتب محافظ سان خوسيه، والذي ضم "مكتب الإنصاف العرقي" ومكتب التكنولوجيا والابتكار، هو أن البيانات المتوفرة لديهم اقتصرت على بيانات قديمة، أو إحصائيات سكانية، وأخرى ناتجة عن استبيانات مسحية، أي أنها لم تكن كافية لخدمة السكان بشكل فعّال أو للتعامل مع حالة عدم الإنصاف التي كان يشتكي منها أفراد المجتمع- بل على العكس، كانت هذه البيانات تقدم مؤشرات عامة تبدو إيجابية في ظاهرها. بالإضافة إلى ذلك، لم تكن لدى مدراء البرامج الحكومية والموظفين الذين يتعاملون يومياً مع سكان المدينة خطة عمل واضحة لمعالجة التباين بين فئات المجتمع فيما يتعلق بسهولة الوصول إلى الخدمات الحكومية.
وللتصدي إلى هذه الظاهرة، جاء القرار بتبني مقاربة تتجه من القاعدة إلى القمة، وتركز على العمليات التي من خلالها توفر مختلف الدوائر خدماتها. حيث تم تكليف فريق خاص في مكتب التكنولوجيا والابتكار بقيادة خبير في مجال البيانات بالتعاون مع مؤسسة "نايت" (، بدراسة الوضع وإيجاد الحلول. وقد طور هذا الفريق إطار عمل جديد قائم على ثلاثة خطوات: الخطوة الأولى هي تحديد مستهدفات العدالة الاجتماعية ومخرجاتها من وجهة نظر كل دائرة وبرنامج، وتحليل البيانات الإدارية الحالية عوضاً عن البيانات الصادرة عن الدراسات المسحية. وأما الخطوة الثانية فتمثلت بالاتفاق على مؤشر يتم من خلاله قياس مدى نجاح المستهدفات على أرض الواقع، وذلك لتمكين صانعي السياسات، وأصحاب القرار، وموظفي الجهات الخدمية في البلدية على مختلف مستوياتهم، من فهم تأثير قراراتهم على تطبيق مفهوم العدالة الاجتماعية في الخدمات. ثم تتم في الخطوة الثالثة عمليات الرصد، والتقييم، وتدريب الموظفين والعاملين في الجهات الحكومية على المنهجية والمؤشرات التي يجب أن يعتمدوها لضمان تحقيق النتائج المرغوبة على المدى الطويل.
وقد أدرك الفريق منذ البداية أهمية تحديد البيانات التي يجب اعتمادها، والمتصلة مباشرة بتقديم الخدمات، عدا البيانات الإدارية التي تُجمع في بداية العمل من مقابلات مع المعنيين في كل جهة، ليتم تحليلها لاحقاً كي تشكل الأساس الذي تنطلق منه التوصيات. وتشمل هذه العملية تحديد التوجهات القائمة وجمع أية بيانات أو معلومات إضافية تلقي الضوء على التحديات. ومما يشمل مقابلات مع عناصر بارزة من المجتمع والسكان أنفسهم. كما ركز الفريق على برامج وخدمات شبكة الأمان الاجتماعي التي لها أثر على تحقيق العدالة الاجتماعية في المدينة.
وعلى هذ الأساس، كشفت أعمال الفريق عن العديد من الثغرات التي لم تكن واضحة للجهات المعنية مسبقاً، والتي سيساهم سد هذه الثغرات في توفير خدمات منصفة أكثر للفئات الأكثر حاجة لها. ففي أول مشروع تجريبي له، تعاون فريق العمل مع دائرة الحدائق وخدمات الترفيه في سان خوسيه، حيث تقدم هذه الجهة المنح لآلاف البرامج التي تُعنى بالأطفال والشباب، مثل الأنشطة الترفيهية خارج المدرسة، أو مساعدة الأطفال في واجباتهم المدرسية، أو المخيمات الصيفية التي تشجع الأطفال من مختلف الأعمار على بناء الصداقات والمهارات. وقد سعى فريق العمل إلى تكوين فهم أفضل حول قيمة هذه البرامج والشرائح التي تستفيد منها، فحلل البيانات المتعلقة بعدد الأسر المؤهلة التي تخدمها البرامج عاماً بعد عام، والمسافة التي تفصل مساكن الأسر عن المراكز الاجتماعية التي تقدم تلك البرامج، بالإضافة إلى تكوين تصور حول مدى نفاذ خدمات رعاية الأطفال إلى الأسر التي هي بحاجة أكبر لتلك الخدمات.
وقد كشف تحليل بيانات السنوات العشر الماضية عن أن بعض الأسر المسجلة في البرامج ليست مؤهلة لأن تكون مسجلة فيه بسبب ارتفاع دخلها. كما أن هناك العديد من الأسر التي تستحق التأهل لكنها ليست على دراية واضحة حول تلك البرامج. وقد سعى فريق العمل إلى جذب أكبر قدر من المشاركة من الجهات المعنية، وقام بالتواصل مع ما يزيد عن 300 منظمة وجمعية محلية، والتي ساعد بعضها في حملات توعوية توضّح للأسر في الأحياء المتدنية الدخل كيفية تقديم طلب الحصول على مساعدات فدرالية لتغطية تكاليف رعاية أطفالهم. فمن خلال رسم مشهد واضح عن توزّع وتمركز برامج المنح الدراسية في أرجاء المدينة، أصبح بإمكان دائرة الحدائق وخدمات الترفيه أن تخطط بشكل دقيق لمواقع البرامج التي تمولها، بنهج عادل وأكثر إنصافاً.
وأكمل فريق العمل إلى حد الآن ستة مشاريع خلال فترة ستة أشهر، لصالح أربع جهات خدمية مختلفة في البلدية، باستخدام إطار العمل الجديد ونهجه في تحليل البيانات ذات الصلة. كما أنه بدأ مؤخراً بإعداد مشروع لمساعدة دائرة الإسكان في تقديم منح للسكن للفئات التي تعاني من مشكلة التشرد.
وقد اكتسب إطار العمل الجديد أهمية في أوساط سان خوسيه لمساهمته في رسم استراتيجيات شاملة للفئات الأكثر تأثراً بقرارات مجلس البلدية. كما أصبح من الأولويات في أجندة أعمال مكتب محافظ المدينة التي تولي اهتماماً خاصاً بالتنوع الثقافي في المدينة والعدالة الاجتماعية في الخدمات التي تقدمها البلدية.
المراجع: