في نهج مبتكر يحوّل مشكلة بيئية إلى حل مستدام، ويخفض الانبعاثات الكربونية، ويوفر دفئاً مستقراً للمساكن، تستخدم الدانمرك الحرارة الفائضة من مراكز البيانات لتدفئة آلاف المنازل. وبدلاً من هدر الطاقة، تعمل مشاريع مثل تلك التي تقودها مايكروسوفت وميتا على توجيه الحرارة عبر مضخات متطورة إلى شبكات التدفئة المحلية.
في عالم لا يكفّ عن التوسع الرقمي، حيث تتنامى الحاجة إلى مراكز البيانات بسرعة مذهلة، يبرز سؤال مُلح: ماذا نفعل بكل تلك الحرارة المهدورة الناتجة عنها؟ فمراكز البيانات، التي تُعدّ الشرايين الخفية للإنترنت والذكاء الاصطناعي وخدمات الحوسبة السحابية، تستهلك طاقة هائلة لتشغيل آلاف الخوادم وتبريدها على مدار الساعة. وكمنتج ثانوي، تُنتج هذه الخوادم حرارة منخفضة الدرجة تُطرد غالباً في الهواء الطلق، في مشهد يكاد يُشبه ترك المدافئ تعمل في الصحراء.
لكن الدانمرك، البلد المعروف بريادته في الابتكار البيئي، رفضت هذا الهدر غير المُبرّر. بدلاً من ترك هذه الطاقة تتبدد، قررت أن تمنحها حياة ثانية في المنازل. فوسط الطقس البارد الذي يعمّ البلاد، طرحت الحكومة وشركاؤها الصناعيون فكرة تبدو بسيطة في ظاهرها، لكنها ثورية في تطبيقها: استخدام فائض حرارة مراكز البيانات لتدفئة الأحياء السكنية.
ليس الأمر مجرد طموح على الورق. ففي مدينتي هوي تاستروب وأودنسي الدانمركيتين، وبفضل مشروعين رائدين تقودهما اثنتان من أكبر شركات التكنولوجيا في العالم هما مايكروسوفت وميتا (فيسبوك سابقاً)، أصبحت هذه الفكرة واقعاً ملموساً يمنح الدفء لآلاف المنازل سنوياً.
في الأولى، هوي تاستروب، تعمل مايكروسوفت على إنشاء مركز بيانات جديد بقدرة تصميمية تُمكّن من توجيه الحرارة الزائدة لتدفئة ما يقرب من 6 آلاف منزل، من خلال شراكة مع مؤسستي تدفئة محليتين. أما في الثانية، أودنسي، فقد دخل مركز بيانات ميتا الخدمة منذ العام 2020، وهو يسترجع سنوياً نحو 100 ألف ميغاواط/ساعة من الطاقة، أي ما يكفي لتدفئة حوالي 6900 منزل عبر شبكة تدفئة محلية.
ما يجعل هذا النهج مختلفاً وجوهرياً هو أنه لا يُعامل الحرارة الفائضة كمشكلة، بل كفرصة. فالطاقة التي كانت تُهدر سابقاً في الغلاف الجوي، وأحياناً تسهم في خلق جزر حرارية محلية، باتت تُستثمر في رفع جودة حياة السكان وتخفيض الانبعاثات الكربونية.
بيد أنّ تحويل هذه الرؤية إلى واقع لم يكن أمراً سهلاً، إذ واجهته تحديات تقنية واقتصادية ولوجستية اعترضت طريقه.
أولى العقبات تمثلت في طبيعة الحرارة المنبعثة من مراكز البيانات. فهي "حرارة منخفضة الدرجة"، أي ليست مرتفعة إلى المستوى المطلوب عادةً لتدفئة المباني. وهنا كان على التكنولوجيا أن تتدخل، فجرى تركيب مضخات حرارية متقدمة، قادرة على رفع درجة حرارة المياه الساخنة المُجمعة، لتصبح قابلة للضخ في شبكات التدفئة الحضرية. كما كان لا بد من اختيار مواقع مراكز البيانات بدقة، بحيث تكون قريبة من البنية التحتية الحالية للتدفئة، ما يقلل من الحاجة لاستثمارات ضخمة في التوصيل والتوزيع. هذا ما تحقق بالفعل في هوي تاستروب بفضل شبكة VEKS المتطورة، وفي أودنسي عبر نظام Fjernvarme Fyn.
اقتصادياً، تبدو المعادلة أكثر تعقيداً. فتكاليف بناء مراكز البيانات المعدّة لاستعادة الحرارة، إلى جانب تحديث شبكات التدفئة لتستوعب هذه الحرارة، تتطلب تخطيطاً دقيقاً وتعاوناً وثيقاً بين الأطراف المعنية. لذا، فقد لعبت شراكات القطاعين العام والخاص دوراً حاسماً حين موّلت شركات التكنولوجيا عمليات التحديث، بينما تكفّلت الهيئات البلدية بالتنسيق والتنفيذ.
في مركز ميتا بأودنسي، يُلتقط الهواء الساخن الخارج من الخوادم ويمرّر فوق أنابيب مملوءة بالمياه، ما يؤدي إلى تسخينها. هذه المياه تُنقل بعد ذلك إلى مضخات حرارية تعمل بدورها بالطاقة المتجددة، فترفع حرارتها لتصبح ملائمة للاستخدام المنزلي، ثم تُضخ في الشبكة العامة لتدفئة المنازل. أما في مشروع مايكروسوفت، فبدأ التصميم من المراحل الأولى لبناء المركز ليكون متكاملاً مع نظام VEKS، ما يضمن استرجاع الحرارة بأقل قدر من الفاقد، وبتكاليف بنية تحتية أقل.
إلى جانب الجانب التقني، تبرز أهمية تعهد الشركتين باستخدام الطاقة المتجددة بنسبة 100% في تشغيل مراكز البيانات، ما يجعل التدفئة الناتجة عنها صديقة للبيئة بالكامل، إذ أنّ كل جزء من السلسلة أصبح متماشياً مع أهداف الاستدامة، بدءاً من مصدر الكهرباء وصولاً إلى دفء المنزل.
ما تحقق حتى الآن ليس نظرياً. فعلى الصعيد البيئي، أسهمت هذه المشاريع كثيراً في خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وفي تقليل الضغط على مصادر الطاقة الأحفورية. أما اقتصادياً، فقد استفاد السكان من فواتير تدفئة أكثر استقراراً، وربما أقل على الأمد الطويل.
يمكن القول إن نجاح التجربة الدانمركية يقدم دروساً ثمينة في دمج التكنولوجيا بالاستدامة. لعل من أبرزها أهمية القرب بين مراكز البيانات والبنية التحتية للتدفئة، وضرورة إشراك المجتمع المحلي، وأهمية البدء بالتخطيط التعاوني منذ اللحظة الأولى. وعلى المستوى الاجتماعي، بنت هذه التجربة جسراً جديداً بين البنية التحتية الرقمية وحياة الناس اليومية، إذ بات السكان العاديون يشعرون بتأثير "التحوّل الرقمي" في حياتهم مباشرة، هذه المرة على شكل دفء في ليالي الشتاء القارس.
المراجع:
• https://local.microsoft.com/blog/datacenter_heat_repurposed/
• https://sustainability.atmeta.com/wp-content/uploads/2020/12/FB_Denmark-Data-Center-to-Warm-Local-Community.pdf







