فيما تواجه الشعاب المرجانية خطر الانقراض بسبب تغيّر المناخ والتلوث والصيد الجائر، ما يؤدي إلى فقدان نظم بيئية بحرية حيوية تدعم ملايين البشر، تأتي مبادرة "كورال فيتا" التي طورت حلاً مبتكراً يتمثل في زراعة الشعاب المرجانية على اليابسة باستخدام تقنيات متقدمة مثل التجزئة الدقيقة والتطور المدعوم، لتسرّع نمو المرجان وتزيد من قدرته على التكيّف مع ظروف المحيط المتغيرة.
في أعماق البحر الكاريبي، وتحديداً قبالة سواحل جزر البهاما، حيث تمتد الشعاب المرجانية كلوحات طبيعية ساحرة، يواجه هذا الجمال أزمة وجود. فهذه النظم البيئية التي طالما شكّلت حجر الأساس للحياة البحرية، باتت تعاني من انهيار متسارع بفعل التغير المناخي والتلوث والصيد الجائر والممارسات البشرية غير المدروسة.
أمام هذا المشهد القاتم، برز حلّ غير تقليدي جاء من قلب اليابسة لا البحر: زراعة شعاب مرجانية في مزارع برية. فكرة بدت في البدء ضرباً من الخيال، لكنها اليوم تقود ثورة علمية وبيئية تعيد الأمل إلى الشعاب المتدهورة، بفضل مشروع "كورال فيتا" (Coral Vita) الذي تأسس في جزر البهاما.
بدأت الحكاية من شغف شخصي بالمحيط، إذ كان جاتور هالبيرن مولعاً بالبحر، لكنه لم يجد طريقه إلى العمل الفعلي في هذا المجال إلا بعد لقائه سام تايشر، زميله في كلية ييل للغابات والدراسات البيئية. ومن هنا، وُلدت في العام 2019فكرة "كورال فيتا" بوصفها أول مزرعة تجارية برية مخصصة لاستعادة الشعاب المرجانية في العالم.
يُزرع في هذه المزرعة الواقعة في فريبورت 24 نوعاً من المرجان الأصلي باستخدام تقنيات علمية متقدمة. إحدى هذه التقنيات تُدعى "التجزئة الدقيقة"، وهي تتيح تسريع نمو المرجان بنسبة تصل إلى 50%، بينما تُستخدم تقنية أخرى تُعرف بـ"التطور المدعوم" لتدريب المرجان على تحمل درجات الحرارة المرتفعة وحموضة المياه المتزايدة بفعل التغير المناخي.
لكن المشروع لا يقتصر على العلم والتقنية فقط. إذ يشكّل مركزاً للتعليم البيئي أيضاً، يمكن فيه للزوار تعلّم أهمية الشعاب المرجانية، وحتى تبنّي قطعة مرجانية ومشاركتها زراعتها مع الفريق المحلي.
لا يدرك كثيرون أن الشعاب المرجانية هي أكثر من مجرد صخور بحرية، وأنها تدعم قرابة 25% من جميع الأنواع البحرية في العالم. فهي موطن لصغار الأسماك، وهي مصدر لغذاء ملايين البشر، وهي أيضاً حاجز طبيعي يصدّ العواصف عن السواحل، وهي ركيزة لاقتصادات السياحة وصيد الأسماك.
ومع ذلك، تشير التقديرات إلى أن أكثر من نصف الشعاب المرجانية العالمية قد اختفت بالفعل، ومن المتوقع أن يختفي 90% منها بحلول العام 2050 إذا ما استمرت الأوضاع على هذا المنوال.
في البحر الكاريبي وحده، دُمّرت 80% من الشعاب المرجانية. والأسباب متعددة: موجات حرارة بحرية أدّت إلى "تبييض" المرجان ومقتله، تحمض المحيطات الناتج عن امتصاص ثاني أكسيد الكربون، الصيد الجائر الذي يُخلّ بتوازن النظام البيئي، والتلوث الناتج عن مشاريع التنمية غير المستدامة. ومع تدهور الشعاب، تنهار حلقات الحياة التي كانت تحتمي بها الأسماك، وتنشأ فراغات بيئية تهدد المجتمعات الساحلية برمتها.
لا يعدّ استزراع المرجان أمراً جديداً بالكامل، لكنه ظلّ لعقود مقتصراً على مشاريع صغيرة أو تجريبية. الجديد في "كورال فيتا" أنه وسّع الفكرة إلى نموذج تجاري قابل للتوسّع، من خلال مزارع برّية قادرة على إنتاج كميات كبيرة من الشعاب المرجانية التي تتصف بالمرونة والقدرة على التأقلم.
توفّر المزارع البرية بيئة محكومة تتيح للعلماء التحكم في درجة الحرارة، والملوحة وتغذية المرجان، ما يمكّنهم من تربية شعاب تتحمّل الظروف القاسية التي تزداد حدة في المحيطات. وهذا ما يجعل من هذه الطريقة أداة فعالة في مواجهة آثار التغير المناخي. كما أن الزراعة البرية تقلل من المخاطر التي تتعرّض لها مشاتل المرجان التقليدية الموجودة في البحر، مثل العواصف أو حوادث القوارب أو الكائنات المفترسة، ما يمنح المرجان فرصة أكبر للوصول إلى مرحلة النضج قبل نقله وزراعته في موطنه الأصلي.
لكن الطريق ليست ممهدة تماماً، بل إن التحديات تكمن في التفاصيل. فالحفاظ على ظروف دقيقة تناسب المرجان داخل منشآت على اليابسة يتطلب تجهيزات متطورة، وفهماً عميقاً لبيولوجيا الشعاب، بالإضافة إلى موارد مالية ضخمة. كما أن نقل التكنولوجيا وتوسيع نطاق المشاريع إلى مناطق جديدة يتطلّب تكيفاً مع الظروف البيئية واللوجستية لكل منطقة. كما إنّ الحصول على التمويل الكافي يشكّل عقبة دائمة، خصوصاً أن العائد من هذه المشاريع لا يكون فورياً. أضف إلى ذلك الحاجة إلى وجود منظومة رصد ومتابعة دقيقة تقيس صحة الشعاب المزروعة وتعدّل الاستراتيجيات بحسب البيانات.
تكمن قوة هذا النموذج في الجمع بين الابتكار التكنولوجي والمشاركة المجتمعية؛ إذ من خلال إشراك السكان المحليين في زراعة المرجان، وتعريفهم بدوره الحيوي، لا يصبح المشروع مجرد مبادرة بيئية، بل جزءاً من هوية المجتمع نفسه.
ومن جهة أخرى، مع تطوّر تقنياتٍ مثل "التطور المدعوم"، بات بالإمكان إنتاج أنواع من المرجان معدّلة طبيعياً تتحمّل ارتفاع درجات الحرارة، ما يمنح الأمل في إمكانية التكيّف مع الواقع المناخي الجديد، لا مقاومته فقط.
قد لا تعود الشعاب المرجانية إلى سابق عهدها في القريب العاجل، لكن مشاريع مثل "كورال فيتا" تثبت أن الأمل لم يمت. بل إن العلم، إذا اقترن بالتصميم والشغف، قادر على إعادة الحياة حتى إلى أكثر النظم البيئية هشاشة. فإنقاذ الشعاب المرجانية لا يعني فقط إنقاذ الأسماك أو الشعاب، بل هو في جوهره دفاع عن مستقبل المحيطات، والمجتمعات التي تعتمد عليها، بل وربما عن الحياة على كوكب الأرض بأسره.
المراجع
• https://www.coralvita.co/
• https://www.unesco.org/en/articles/coral-vita-restoring-our-worlds-dying-reefs







