تتوالى المدن حول العالم في انضمامها إلى سباق رقمنة الخدمات العامة. وظهر مؤخراً توجّه لتمكين الناس من توثيق الأحداث الكبرى في حياتهم وإجراء معاملاتها عن بُعد، كما في الولايات المتحدة وسنغافورة، وذلك من خلال منصات رقمية تجمع عدة خدمات حكومية عبر بوابة واحدة.
حين يتعلق الأمر بالخدمات العامة، ما يهم المواطنين أولاً هو الحصول على الخدمة بسلاسة ونجاح، أما ماهية الجهة الحكومية التي ستقدّمها وتفاصيلها لا تشغل بالهم، لا سيما أنّ الخدمات الحكومية جزء أساسيّ من كلّ تفصيل حياتيّ وسيكون من المُجهد لأيّ كان أن يضيّع وقته لفهم طريقة عمل كيانٍ ما.
المشكلة أنّ هذه الكيانات متداخلة، وأنّ معظم الخدمات التي يتلقاها الناس تتم عبر عدة جهات ومؤسسات وتمر عبر مستويات إدارية وتنظيمية وإجرائية مختلفة. على سبيل المثال، يعرف الجميع أنّ استقبال مولود جديد حدثٌ ستتبعه عدّة إجراءات ومعاملات حكومية من تسجيل الوليد والرعاية الصحية وإجازة الأمومة وما شابه. ومع أنّ هذه المعاملات مرتبطة بحدث سار ومُخطّط، فقد تكون مضنية، ناهيك عن الأحداث المؤسفة وغير المُخطّطة، كحوادث المرور أو فقدان الوظيفة أو الوقوع ضحية جريمة أو فقدان فرد من العائلة، حيث قد يضطرّ ذوو الميت في بلدٍ كالمملكة المتحدة لإجراء معاملات حكومية في 44 مؤسسة.
قد تولّد التعقيدات حواجز بين المواطنين والسلطات، وتجعل آليات الحوكمة مجهِدة ومستنزِفة للوقت والمال العام والخاص، وتجرِّد الخدمة الحكومية من جانبها الإنساني. فقد خلصت دراسة استقصائية استهدفت أمريكا الشمالية وأوروبا وآسيا والمحيط الهادئ إلى أنّ 39% من المشاركين تمنّوا زيادة التفاعل الرقمي مع حكوماتهم، بينما عبّر 53% منهم عن إحباطهم من آلية تقديم الخدمات الحكومية.
التغلّب على هذه التحديات والتعقيدات، يحتاج مفاهيم حوكمةٍ جديدةً وتعاونَ عدة جهاتٍ للتخطيط والتمويل والتنفيذ وتقديم تقنيات آمنة وموثوقة لمشاركة البيانات.
في ولاية نيويورك الأمريكية، أطلقت الحكومة بالتعاون مع عدة مؤسسات، منصة "ماي سيتي" أو "مدينتي" الرقمية، وذلك بعد أشهر من جمع الموافقات من الحكومة الفيدرالية. فعلى مدى 15 شهراً، استمرّ العمل لبناء تصور جديد وشامل لخدمات المدينة لتلبّي احتياجات السكان بشكل أفضل.
ستكون المنصة عبارة عن مستودع بيانات مركزيّ للوكالات الحكومية كافةً، إذ ستقدّم في المرحلة الأولى إعانات رعاية الأطفال، حيث يمكن للمستخدمين التقدّم للحصول عليها وحفظ معلوماتهم ووثائقهم للرجوع إليها مستقبلاً عند طلب خدمات كيانات أخرى. أما في المرحلة الثانية التي ستنطلق هذا العام، ستحاول المنصة أن تكون صلة وصل بين أصحاب الأعمال الصغيرة والباحثين عن الفرص.
سيُتاح الوصول إلى المنصة عبر الهواتف الذكية أو الحواسيب، وستقدّم للناس خدمات مختلفة عبر طلب واحد، وهي مصمّمة لخدمة السكان المحليين والأجانب أيضاً بواجهة متاحة بـ 10 لغات مختلفة.
على الناصية الأخرى من العالم، احتضنت سنغافورة منصة مشابهة حملت اسم "لايف إس جي"، وجاءت كجزء من مبادرة أوسع باسم "لحظات من الحياة"، وهي تختصّ بالأحداث الكبرى في حياة المواطنين، كالزواج مثلاً، حيث يمكن للمتزوّجين استخدامها للحصول على الرخصة وتغيير العنوان ولقب الزوجة ونوع التأمين وغيرها. وقد بدأت المنصة بدعم العائلات التي ترعى أطفالاً دون السادسة، لتطوّر خدماتها تدريجياً وتضيف ميزات جديدة كرعاية كبار السن ودليل الباحثين عن وظيفة.
على واجهة الموقع، يمكن للمواطنين اليوم استكشاف أكثر من 70 خدمة حكومية، وهي آخذة في الازدياد، ومقسّمة بحسب الأهمية إلى موضوعات مثل الأسرة والأمومة والأبوّة والعمل والرعاية الصحية والإسكان والممتلكات وغيرها. كما تتيح المنصة لوحة معلومات مخصّصة لمساعدة المستخدِمين في إنجاز أعمالهم بيسر، والاطلاع على البريد الوارد وجدول المواعيد الذي ينقل إليهم الإعلانات المهمة، ويتابع معاملاتهم عبر جميع مراحلها، ويذكِّرُهم باستكمال المستندات المطلوبة أو بمواعيد تجديد بعض الوثائق. كما يمكنهم اللجوء إلى وحدة المزايا والدعم التي تشرح لهم الخدمات والفوائد التي سيحصلون عليها عبر ملفات تعريف موحّدة.
أما في المملكة المتحدة، فقد أطلقت الحكومة برنامجاً يحمل اسم "أخبرنا مرة واحدة" (Tell Us Once)، وهو يختص بالمعاملات الحكومية التي تتضمّن حالة وفاة، بحيث يستطيع أي مواطن بريطاني مفجوع بأحد أفراد أسرته إخطار المنصة مرة واحدة لترسل الإخطارات تلقائياً إلى السلطات الضريبية ومكتب الجوازات والحكومات المحلية وشركات التأمين وكلّ الجهات المعنية.
لكنّ هذه المبادرات تواجه تحدّيات عديدة مثل تعارض أهداف الكيانات الحكومية واختلاف معايير البيانات المُعتمدة في كلٍّ منها، ما يتطلّب تحديد الأدوار ومواءمة الأهداف بدقة، إلى جانب تبنّي أنظمة سلسة ومعايير موحّدة للبيانات. كما يمكن للّوائح أن تعوق مشاركة البيانات وتقيّد أدوات المساءلة والحوكمة، وهذا ما يحتاج إرادة سياسية حقيقية.
أخيراً، تحتاج هذه المنصات ثقة المواطنين الذين سيودعونها أهم معلوماتهم، وتستدعي مناخاً أوسع من الثقة بين المؤسسات التي ستشارك البيانات والموارد والتكنولوجيا. وسيفرض غياب أحد هذين النوعين أو كليهما تحدياً كبيراً على أيّ مسعى من هذا النوع، ولا حلّ له إلا ببناء الوعي لدى المواطنين وإرساء بروتوكولات متينة تقوم عليها شراكات حقّة بين مؤسسات الدولة.
تسهّل منصة "مدينتي" النيويوركية وصول السكان إلى المعلومات وتلقّي دعم الكيانات الحكومية المختلفة، فتساهم في الحدّ من البيروقراطية والروتين في الخدمات الحكومية.
أما منصة "المرة الواحدة" البريطانية ونظيرتُها السنغافورية، فتزيحان عن كاهل الأفراد عبء الإجراءات الرتيبة في الأحداث الفاصلة في حياتهم، سواء أكانت مفرحة أو محزنة، فتحقّق بذلك جوهر الخدمة الحكومية التي تعين الناس لعيش حياة إنسانية سليمة.
المراجع:
- https://newsroom.accenture.com/news/accenture-report-finds-people-want-easy-to-use-government-customer-services.htm
- https://mycity.nyc.gov/s/?language=en_US&LanguageCode=en_US
- https://www.nyc.gov/office-of-the-mayor/news/217-23/mayor-adams-launches-first-phase-mycity-portal-easily-help-new-yorkers-check-eligibility-#/0
- https://www.tech.gov.sg/products-and-services/lifesg/
- https://www.deloitte.com/global/en/our-thinking/insights/industry/government-public-services/citizen-centric-government.html
- https://www.gov.uk/government/publications/tell-us-once-easy-read-guide