فلّاحون بلا أراضٍ... كيف تغذّي الزراعة الحَضَرية المدن

فلّاحون بلا أراضٍ... كيف تغذّي الزراعة الحَضَرية المدن

1 دقيقة قراءة
تجربات الزراعة الحضرية تنتشر عالميًا لمواجهة تحديات النمو الحضري وتغير المناخ. تايوان وسنغافورة والأرجنتين تستخدم تقنيات الزراعة العمودية والداخلية لاستغلال المساحات الفارغة. زراعة الخضروات في أحواض مائية معتمدة على التكنولوجيا. هذه التجارب تسهم في توفير الغذاء وحماية البيئة وتعزيز الأمان الغذائي وتطوير قطاع التكنولوجيا.
شارك هذا المحتوى

أضف إلى المفضلة ♡ 0

بقدر ما تبدو مدن العالم مزدحمة، إلا أنّها ما تزال تخفي مساحات غير مستخدمة داخلَها أو على تخومها، وذلك في العديد من دول العالم. لكن باستخدام تقنيات الزراعة العمودية والإضاءة المضبوطة والأحواض المائية، استطاعت بعض الدول استغلال هذه المساحات، كما في تايوان وسنغافورة والأرجنتين، فخاضت كلٌّ منها تجارب مع الزراعة على أسطح الأبنية أو في المواقع المهجورة أو حتى المغلقة.

مع النموّ الحَضَريّ، تنمو متطلّبات الناس، وتزداد احتياجاتُهم تعقيداً، فيما تغيّر المدن بعمرانها الصفات الديمغرافيةَ والطبيعيةَ للمساحات التي كانت في السابق خضراء. يزداد هذا الواقع وضوحاً كلّ يوم، إذ تتوقّع المنظّمات الدولية أنّ قرابة 70% من البشر سيعيشون في المدن بحلول العام 2050.

حسابياً، سيشغل هؤلاء مساحاتٍ شاسعةً، تتضاءل معها الأراضي الزراعية التي ستعجز بعدها عن تلبية الطلب المتزايد على الغذاء، وخاصةً في ظلّ هجرة المزارعين صوبَ المدن بحثاً عن آفاق اقتصادية أوسع أو هرباً من الزحف الصحراويّ وشحّ المياه والقطع المكثّف للأشجار، كما في حالة أمريكا اللاتينية التي تعاني اقتصاداتٍ مترنِّحةً وبطالةً مرتفعة وظروفَ طقسٍ متقلِّبة، ناهيك عن الحرائق والفيضانات.

الوضع ليس أفضلَ حالاً في آسيا، فالظروف نفسُها مصحوبةً بتغيُّر المناخ، فرضت ضغوطاً بيئيةً واقتصاديةً على كلٍّ من الأرياف والمدن، ضغوطاً تصل أحياناً إلى درجة التهديدات الجدّية التي تواجه الأمن الغذائيّ لبلدانٍ برمّتها، لا سيما تلك المستورِدة للأغذية وذات الكثافة السكانية المرتفعة. في الوقت نفسِه، لم تعد هذه الأغذية صحيةً كما في السابق، نظراً للاستخدام المفرط للمبيدات الحشرية والكيماويات المصنوعة من مشتقات النفط، ناهيك عن انبعاثات غازات الاحتباس التي تتسبّب بها الزراعة التقليدية والتي تبلغُ نسبتُها 18.4%.

هنا، صار لِزاماً على أبناء المدن وسلطاتها المحلية إيجادُ بديلٍ عن الأراضي الزراعية التي التهمَها المشهد الحَضَريّ. وكان البديل مفهوماً يحمل اسم الزراعة الحَضَرية، وهي تجربة تلتقي فيها سياسات الدعم الحكومية مع تخطيطٍ حضريٍّ سليمٍ ورغبةٍ من سكان المدن بتأسيس أنظمةٍ غذائيةٍ مستدامة.

بديل يحتاج إلى إنشاء مزارع محليةٍ صغيرةٍ في الأراضي الشاغرة ومدافن النفايات ليرعاها أبناء المجتمعات المحلية بالتعاون مع الكيانات العامة والخاصة، أو الزراعة العمودية في الأبنية المهجورة أو تحويل أسطح الأبنية الحَضَرية إلى حدائق صالحةٍ لنموّ المزروعات، أو تركيب أحواضٍ للزراعة المائية أو المختلطة، أو اللجوء إلى العمليات الصناعية والتكنولوجية وحتى المؤتمتة، جزئياً أو كلياً.

من التجارب البارزة في هذا المجال، تأتي تلك التي طوّرتها تايوان، إذ تعيد حكومتُها تأهيلَ البنى التحتية القديمة لتجري اختباراتٍ على مفهومَي الزراعة العمودية والداخلية لإنتاج أغذية طازجة. توجّه المشروع الأبرز إلى شبكة المترو غير المستخدمة في العاصمة تايبي، حيث تمتدّ مزرعة "مترو فريش" المائية على 40 متراً. وهي عبارةٌ عن أحواض ماءٍ معقّمٍ خالٍ من المضادات الحيوية، تنمو فيه أوراق الخسّ مستمِّدةً الضوء من المصابيح الثنائية "مصابيح اللِد". وتتصل هذه الأحواض بشبكةٍ معقّدةٍ من المعدّات عالية التقنية التي تنظِّم سطوعَ الإضاءة ودرجاتِ الحرارة ونِسَبَ المغذّيات وغيرها.

ولزيادة إقبال الشبّان على الزراعة والاستفادة من اهتماماتهم التكنولوجية، تعمل الحكومة على تعزيز حضور المزارع الذكية والمزارع العمودية التي تُغرس فيها البذور على 10 طوابق يعلو أحدُها الآخر، ما يعادل هكتاراً واحداً من الأرض الزراعية الطبيعية، كما يمكن أن يصل عدد الطوابق فيها إلى 100، ما يعني 10 هكتاراتٍ من الأرض الزراعية ضمن ألف مترٍ مربّع.

تقاطعات كثيرةٌ تجمع التجربة التايوانية بنظيرتها السنغافورية، وتتميّز الأخيرةُ بأنّ حكومتها تقدّم المِنَح والتسهيلات التكنولوجية لمواطنيها، وتدعوهم لزراعة ما استطاعوا على أسطح بيوتهم أو في مواقف السيارات متعدّدة الطوابق، حيث تطرح وكالة الأغذية السنغافورية هذه المواقع في مناقصاتٍ للاستثمار الزراعيّ وتخزين المحاصيل على مدى 3 سنوات.

ومن آسيا إلى أمريكا اللاتينية، وتحديداً في مدينة روساريو الأرجنتينية، أطلقت البلدية في العام 2002 برنامجاً للزراعة الحَضَرية، بحثاً عن أساليب مبتكَرةٍ في مقاربة قضيتَي تغيّر المناخ وانعدام المساواة.

يضمن البرنامج لذوي الدخل المنخفض الوصولَ إلى الأراضي المهجورة، سواءٌ أكانت عامةً أو خاصة، ويزوِّدُهم بالأدوات والمواد والبذور اللازمة، ويدرِّبهم على آليات الإنتاج الزراعيّ الصديق للبيئة والخالي من المواد الكيميائية. كما أنشأت البلدية أسواقاً شعبيةً لتمكين المزارعين الحَضَريين من بيع محاصيلهم ومنتجاتهم البيتية كالمخلّلات والصلصات والعصائر والمربّى ومواد التجميل العضوية.

لكنّ نجاح هذه الأفكار تعوقه بعض التحديات، أبرزُها نقص الوعي لدى الناس الذين يخلطون بينها وبين مفاهيم زراعية أخرى كالتعديل الوراثيّ. وعلاوةً على ذلك، فلا يمكنهم بلوغُ المستوى التكنولوجيّ المطلوب، ناهيك عن استهلاك الكهرباء الكبير المرتبط بأنظمة الإضاءة. لكنّ هذه الأفكار تَعِدُ بتحقيق آثارٍ كبيرة في حال اقترنت بالمعرفة، فهي تقرِّب المساحات الخضراء من الناس وتمنحهم فرصةً لممارسة نشاطاتٍ مفيدة جسدياً ونفسياً، وتوظِّف المساحات غير الفعّالة في المدن المزدحمة، وتضفي بعض المرونة على سلاسل الإمدادات.

إلى جانب تعزيز الأمن الغذائيّ، تساهم المزارع الذكية التايوانية في تحفيز قطاع التكنولوجيا وزيادة المحصول وتحقيق أقصى استفادةٍ من الأراضي والموارد الطبيعية والاقتصادية ما ينعش البيئة ويقدّم حزاماً أخضر ينقّي هواء المدن.

وفي سنغافورة، تتطلّع الحكومة إلى تقريب مراكز الإنتاج من المستهلكين وزيادة الإنتاج بنسبة 10 إلى 15 ضعفاً وإنتاج 30% من احتياجات السكان الغذائية محليّاً بحلول العام 2030. أما في روساريو، اتّسع مشروع الزراعة الحَضَرية خلال عقدَين ليغطّي 75 هكتاراً يعمل فيها مئات السكان المحليين للوصول إلى إنتاجٍ غذائيٍّ صحيٍّ ومستدام ومواجهة تغيّر المناخ.

المراجع:

اشترك في منصة ابتكر لتبقَ على اطلاع على أحدث المبادرات والمساقات والأدوات والابتكارات الحكومية
قم بالتسجيل
اشترك في النشرة الإخبارية لمنصة ابتكر
القائمة البريدية للمبتكرين
تصل نشرتنا الإخبارية إلى أكثر من 30 ألف مبتكر من جميع أنحاء العالم!
اطلع على النشرة الإخبارية لدينا لتكون أول من يكتشف الابتكارات الجديدة و المثيرة و الأفكار الملهمة من حول العالم التي تجعلك جزءاً من المستقبل.
Subscription Form (#8)
المزيد من ابتكر

تمكين العقول الشابة … كيف تعزّز منطقة واترلو الابتكار

في قلب أونتاريو، حيث يلتقي الابتكار بالتعاطف، تعمل مبادرةٌ على تشكيل المستقبل بالعمل مع عقول الشباب، في مختبر الابتكار، بمنطقة واترلو الذكية، الذي يقوّي قدراتهم على حلّ المشكلات عبر التعلّم القائم على المشاريع ومقاربة تحدّيات العالم الحقيقيّ.

 · · 3 فبراير 2025

مبادرة "مليون جينوم وأكثر" في أوروبا … أفقٌ جديدٌ للبحوث الطبيّة

لإحداث ثورةٍ في الرعاية الصحية من خلال الطبّ الشخصي، أطلق الاتحاد الأوروبيّ مبادرةَ "مليون جينوم وأكثر" التي ستُرسي بنيةً تحتيةً آمنةً للبيانات الجينومية والسريرية، وتعزِّز التعاون بين 25 دولة، وتسهم في وضع المعايير الدولية في هذا المجال.

 · · 3 فبراير 2025

التقويم البيئي: خبرة الشعوب الأصلية وسيلةً صوبَ المرونة المناخية

على الجبال الوَعِرة وحول ضفاف الأنهار الجليديّة، تواجه المجتمعات الأصلية آثر تغيّر المناخ متكئةً إلى خبراتها وتقاليدها، فتتشارك مع خبراء الدراسات البيئية في إعادة إحياء حكمتها القديمة لتنسِّقَ سُبُلَ عيشِها وتحقق سيادتِها وأمنها الغذائيين.

 · · 3 فبراير 2025

برنامج الطبّ الدقيق في جنوب أفريقيا: دراسة التركيبة الجينية لإحداث نقلةٌ في الرعاية الصحيّة

لمواجهة التحدّيات الصحّية التي تهدّد سكان جنوب أفريقيا، بحث العلماءُ عن المفتاح في مورِّثاتِهم، فانطلقت مبادرةٌ باسم الطبّ الدقيق، الذي يصمّم التدخُّلات العلاجية بناء على الخصائص الفردية، بدلاً من تطبيق بروتوكولاتٍ موحَّدةٍ على جميع المرضى.

 · · 6 ديسمبر 2024

الزراعة المستدامة، نظم الأغذية المرنة، الزراعة العضوية، البنية الأساسية العامة الرقمية

بهدف تعزيز سبل العيش الزراعية المستدامة، بادرت حكومة ولاية كيرالا الهندية بابتكارٍ أسمته "منصة الأغذية"، وسَعَت من خلاله إلى إنشاء شبكة تعاونياتٍ عبر مختلف القطاعات، من الزراعة إلى منتجات الألبان وتوزيع الأغذية العضوية وغيرها، وذلك لمقاربة التحدّيات التي تواجهها وزيادة متانة منظومتها الزراعية وشفافيّتها وعدالتها.

 · · 6 ديسمبر 2024
magnifiercrossmenuchevron-downarrow-right