يكتسب مفهوم الشخصية القانونية المُطبَّق تقليدياً على الناس والمؤسسات زخماً كبيراً في حماية الأنهار، وذلك بقيادة المجتمعات الأصلية في بلدان مثل كندا والولايات المتحدّة ونيوزيلندا، التي تؤكّد أنّ هذا المنظور الجديد قد يوسّع آفاق الحفاظ على التنوع البيولوجي وموارد المياه العذبة والأهمية الثقافية للأنهار.
عبر تاريخِه، نظر الإنسان إلى الأرضِ وكلِّ ما عليها بوصفها مواردَ عليه أن يحسنَ استغلالَها، وحين أدركَ أنّها تكاد تضيع منه، بدأ يفكّر بطرائق لإنقاذها، إلى أن تساءل أحدٌ ما: ماذا لو كان المفتاح في تغيير النظرة إليها؟ ماذا لو اعتبرنا ما عليها ككياناتٍ لها حقوقٌ وقيمة؟
لنأخذ الأنهار مثلاً، التي لا تشكّل سوى جزءٍ يسيرٍ من المياه العذبة في العالم، لكنّها تزوّد الكثيرين بها، ما يجعلها مورِداً بارزاً، لا سيما بالنظر إلى الأخطار التي تهدّد منسوباتِها وجودتَها ومستقبلَها، إلى جانب التنوّع البيولوجيّ الذي تحتضنه هذه الأنهار، وأهميّتها الثقافية للجماعات التي أسّست حياةً على ضفافها.
من بين المقاربات العديدة التي طُوِّرَت لتعزيز المساءلة البشرية عن صحة هذه الأنهار وحيويتها، حظيت فكرة "الشخصية القانونية" باهتمامٍ عالميّ وطُبِّقَت في كلٍّ من كندا والولايات المتحدة ونيوزيلندا في تجارب قادها أبناء المجتمعات الأصليّة.
ببساطة، يقوم هذا المفهوم على تمكين إنفاذ القانون حين ينتهك الإنسانُ الطبيعةَ، ويقضي بمنح الأنهار وضع الشخص القانونيّ المُستخدَم للتعامل مع الشركات والكيانات الأخرى في الأنظمة القانونية في جميع أنحاء العالم، فيسدل على النهر حقوقاً بل ومسؤولياتٍ قانونيةً محدّدة لم يكن ليتمتّع بها لولاه. وفي حين يبقى وجود الأفراد الآخرين ضرورياً لدعم حقوق الكيان الطبيعيّ، فهو لا يُعَدّ ملكاً لأيّ فرد.
تلك هي نظرة الشعوب الأصلية إلى عناصر بيئاتها، حيث ترى فيها كائناتٍ لها حقوق متأصّلة، وهي نظرةٌ سبقت التبنّي الغربي لمفهوم الشخصية القانونية. ففي كندا مثلاً، اعتمدت أمة الإينو الأولى على نهر "ماجبي" في النقل والغذاء والدواء لقرون، وأسمته "موتوهيكاو شيبو"، قبل أن يُضعِفَه تطوير السدود الكهرومائية الذي سبّب آثاراً اجتماعيةً وبيئيةً سلبيةً تفوق أيّ فوائدٍ للطاقة المتجدّدة التي يولّدها. وفي العام 2021، أعلن مجلس إينّو في إكوانيتشيت وبلدية مقاطعة مينجاني الإقليمية نهرَ "موتوهيكاو شيبو" شخصاً قانونياً، ما أكسبه تسعة حقوق، بما في ذلك الحقّ في التدفّق والحفاظ على تنوّعه البيولوجيّ والحماية من التلوّث ومقاضاة منتهكي هذه الحقوق، بحيث يمكن اتخاذ الإجراءات القانونيّة بحقّهم إذا تسبّبت أنشطتُهم بالمساس بالنهر، وليس الاكتفاء بتسوية الأضرار التي لحقت بمصالح ملكيات الآخرين.
وبالمثل، منحت قبيلة يوروك الأمريكية حقوق الشخصية لنهر "كلايمث"، في حالةٍ هي، على الأرجح، التجربة الأولى لهذا المفهوم في أمريكا الشماليّة، لكنّه كان وليد الضرورة، حيث لمس مجلس القبيلة معاناة أبنائها جرّاء انخفاض معدّلات تدفّق المياه، الذي تسبّب بزيادة أمراض أسماك السلمون وخسارة مواسم صيدٍ برمّتها، فاستندت القبيلة إلى إعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الشعوب الأصلية، الذي يدعم حقوق السكان الأصليين في حماية أراضيهم ومواردهم.
أما في نيوزيلندا، فالحكاية أقدم بكثير، وأبطالُها ينتمون لشعب "ماوري" النيوزيلنديّ الأصليّ، وهي بعمر نضال قبيلة "وانغانوي" المستمرّ منذ 140 عاماً على أمل الاعتراف بالنهر الذي تستمدّ منه اسمها وقوّتها، ويتدفّق عبر جزيرة نيوزيلندا الشمالية، على امتدادٍ يجعله ثالث أكبر أنهار البلاد. وحين تُوِّجَت قرابة قرنٍ ونصفٍ من النضال بنيله الاعتراف القانونيّ والحقوقَ التي يتمتّع بها الإنسان، أصبح أول نهرٍ يُعَدُّ شخصيةً قانونيةً على مستوى العالم. حدث ذلك في العام 2017، فنشر الإلهامَ عبر دولٍ أخرى سَعَت لتبنّي تدابير مماثلة، مثل كولومبيا التي اعترفت محكمتُها العليا بنهر الأمازون، أكبر أنهار العالم، ومنحته الحقوق القانونية. وفي نيوزيلندا نفسِها، كان المفهوم أوسع، فمُنِحَت الشخصية القانونية مثلاً لمنتزه "تي أوريويرا" وجبل "تاراناكي"، وهو بركان عمره 120 ألف عام.
رغم الآمال التي تولَد من هذه التجارب، لا بدّ من تذكّر التحدّيات، فالشخصيّة القانونية لعناصر الطبيعة لا تزال مفهوماً قانونياً جديداً ونادرَ التطبيق ولم يدخل قاعات المحاكم بعد، وأثره الحقيقيّ يكمن – حتى الآن على الأقل – في إبقاء النزاعات خارج المحكمة بالاعتماد على الأوصياء المعيَّنين للدفاع عن الأنهار أو الغابات وبقيادة المجتمعات الأصليّة بصورةٍ أساسية. أمّا إنشاء الأُطُر القانونية المتينة التي تؤسّس الثِّقَل القانونيّ لهذه الشخصيات الاعتبارية، فهو يتطلّب نقلةً شبهَ جذريّةٍ في العلاقات وفي عمل المؤسسات ومسعى يمكن أن نسمّيه "تدوين المعرفة الأصلية"، بمعنى تحويل الحكمة القديمة للشعوب الأصلية إلى قوانين مرجعيةٍ بعد تكييفها مع العالم المعاصر.
لكنّ هذا لا ينفي أنّ منحَ الشخصية القانونية للأنهار – على ضيق نطاقه – قد نجحَ في إحداث آثار عميقة، فهو يعيد تعريف العلاقة بين الناس وعناصر الطبيعة، ويقدّم رؤى قيّمة لحماية البيئة ويرفع مكانة الأنهار فيساهم في الحفاظ على التنوّع البيولوجيّ وحفظ إمدادات المياه العذبة للجميع. بالإضافة إلى ذلك، يسلّط هذا الاعتراف الضوء على الأهمية الثقافية للأنهار، مما يعزز الاحترام والمسؤولية والارتباط الأعمق بهذه الكيانات الطبيعية.
من الناحية العملية، يمكن للشخصية القانونية أن تزيد فعّالية جهود الحفاظ على البيئة وتقوّي موقف مناصريها، كما أنّ من شأنه تحفيز الاقتصادات المحلية من خلال تعزيز الممارسات المستدامة، وتشجيع المجتمعات على تطوير السياحة الصديقة للبيئة وما شابهها من الأنشطة، فيدعم سبل العيش المحلية.
المراجع:
- https://www.cbc.ca/documentaries/the-nature-of-things/this-pristine-canadian-river-has-legal-personhood-a-new-approach-to-conserving-nature-1.7100728#:~:text=In%202021%2C%20the%20Innu%20Council,to%20exist%20and%20to%20flow.
- https://papers.ssrn.com/sol3/papers.cfm?abstract_id=3270391
- https://www.nationalgeographic.com/travel/article/these-rivers-are-now-considered-people-what-does-that-mean-for-travelers
- https://www.bbc.com/travel/article/20200319-the-new-zealand-river-that-became-a-legal-person
- https://www.hcn.org/issues/51-18/tribal-affairs-the-klamath-river-now-has-the-legal-rights-of-a-person