لأنّ الخدمات الحكومية أعقدُ بكثيرٍ مما تبدو، قررت مدينة "غيتسهيد" الإنجليزية خوض تجربة جريئة تضع العلاقات والتفاهم الإنساني في الصدارة، بدلاً من التركيز على الكفاءة التقليدية. وقد أطلقت على تحولها الجذري هذا اسم "الأسلوب المرن".
يُفترض أن يكون مفهوم الخدمات الحكومية، خاصة تلك المتعلقة بالخدمات الاجتماعية، متمحورًا حول تلبية احتياجات الناس وتمكينهم من خلال الاستجابة السريعة والدقيقة والفعّالة التي يتلقونها من مقدمي الخدمات، والتي تُحدث تأثيرًا إيجابيًا في حياتهم.
في كثير من الأحيان، يركّز الإصلاح التقليدي لأنظمة الخدمات الحكومية على الكفاءة وسهولة الوصول إلى الخدمات، مما يؤدي إلى اتباع مسارات جامدة تتجاهل البعد الإنساني، وتنتج نهجًا يفتقر إلى معالجة الاحتياجات الحقيقية للأفراد. ببساطة، يمكن القول إن التركيز على العمليات والبروتوكولات الصارمة قد يزيد من تعقيد المشكلات بدلاً من حلها، أو قد يكون محدودًا في التعامل مع مشكلات محددة مثل الإدمان أو التشرد، مما يؤدي إلى تراكم الطلبات والاحتياجات التي لم تُلبَّ.
على مدى الثمانين عاماً الماضية، ساد الاعتقاد بأنّ خدماتٍ أكثرَ تعني مشكلاتٍ أقلّ، وهذا أدى إلى زيادة الطلب واستنزاف الموارد، يُضاف إليه محدودية الأدلة التي يمكن أن تقيس فاعلية تلك الخدمات أو ذاك النهج.
يكمن التحدي هنا في الانتقال من هذا النظام الجامد إلى نظام يُعطي الأولوية للعلاقات والقدرة الداخلية على التغيير، مما يسهم في تحقيق نتائج أفضل باستخدام موارد أقل.
في إنجلترا، غالبًا ما تكون مواجهة تحديات من هذا النوع من اختصاص الإدارات المحلية، ولم تكن سلطات مدينتي "غيتسهيد" و"نورثمبريا" استثناءً. فقد تعاونت مجموعة متنوعة من أصحاب المصلحة، بما في ذلك السلطات المحلية، والمنظمات المجتمعية، والمؤسسات الأكاديمية، على مدار خمس سنوات لتطوير ما أسموه "الأسلوب المرن."
يمثّل هذا الأسلوب نهجاً مبتكراً في بناء العلاقات الإنسانية وفهم الأفراد الذين يتعامل معهم الموظّفون، والذين صُمِّمَت الخدمات لمساعدتهم، بدلاً من مجرد تحسين الخدمات في حد ذاتها.
في الواقع، لا يمكن للخدمات الحكومية بمفردها تغيير حياة الأفراد، لكنها تستطيع تسهيل التغيير لهم. لذا، يجب على الأسلوب المحرر، الذي يهدف إلى تمكين الأفراد من إطلاق إمكاناتهم، أن يركز على تحقيق التوازن بين جانبين. الأول يتعلق بالموارد الخارجية، حيث يقدم مديرو الحالات المساعدة العملية ويتميزون بالمرونة العاطفية التي تعد أساسية لتوفير الشعور بالأمان والاستقرار للمستفيدين، وهو الشعور الذي يعد ضروريًا للإنسان ليتمكن من الاستفادة من نقاط قوته الداخلية.
رغم أن المتعاملين مع الحالات يتمتعون بالاستقلالية في اتخاذ القرارات ويستطيعون التصرف دون الرجوع إلى الإدارات العليا، إلا أنهم يتبنون إطار عمل بسيطًا ومحددًا في الوقت نفسه، يُعرف بـ "قاعدتان وخمسة مبادئ". يعتمد هذا الإطار على قاعدتين أساسيّتين هما: "لا ضررَ ولا ضِرار" و"التزام القانون"، مع إضافة خمسة مبادئ قابلة للتكييف التي توجه عملية اتخاذ القرار وتعزز التعلم الجماعي. كما يتمتع كل فريق بإمكانية الوصول إلى ميزانية مرنة لحل المشكلات اليومية، مثل شراء تذكرة حافلة، تمهيدًا لمناقشة التحديات الأكبر. ويخضع الإنفاق (الذي يتم تدقيقه ومساءلته) لأربعة معايير رئيسية، هي: التناسب، والشرعية، والضرورة، والقابلية للتدقيق.
أما الجانب الثاني، فهو الموارد الذاتية، حيث أن الفرد، عندما يتلقى تأكيدًا كافيًا لحقه في تقرير مصيره والمساهمة في التنمية المجتمعية، فإنه يصبح أكثر تحفيزًا لاتخاذ خياراته الخاصة وتوظيف قدراته بالشكل الأمثل من وجهة نظره الشخصية. كما يصبح قادرًا على طلب الدعم أو تقديمه عند الحاجة. ببساطة، يدرك مصممو هذا النهج أن أهمية وكفاءة الخدمات لا تلغي هدفها الأساسي، وهو تمكين الأفراد من تحسين حياتهم.
تتميز هذه الأنشطة بالمرونة والتداخل بدلًا من اتباع تسلسل صارم، مما يتيح التكيف وفقًا للاحتياجات الفردية. يتضمن هذا الأسلوب بناء علاقات قائمة على الثقة بعد تلبية الاحتياجات الأساسية مثل الطعام أو الملابس أو الإعانات، ليتم توجيه الأفراد نحو أهداف طويلة الأجل من خلال تعزيز قدرتهم على اتخاذ القرارات بأنفسهم والتواصل مع المجتمع من حولهم، وتقليل الاعتماد على اختصاصيي الرعاية الاجتماعية في النهاية.
مع ذلك، لا يقتصر الحل على إعادة تصميم الأنظمة رغم التحديات التي تواجهها، إذ إن جزءًا كبيرًا من الحالات الناجحة تم استخلاصه من مقاربات مستقلة عن النظام، والتي شملت فهم احتياجات الأفراد بدلاً من مجرد تقييمها، والتركيز على الملاءمة بدلاً من الامتثال، ومعالجة المشكلات بشكل فوري بدلاً من الانتظار للتغييرات الهيكلية.
فيما يتعلق بتخصيص الموارد، يشكل هذا تحديًا كبيرًا، حيث تتردد الوكالات في الاستثمار في التدابير الوقائية، إذ نادرًا ما تُترجم الوفورات في مجال الصحة إلى إعادة استثمار في مجالات أخرى مثل الرعاية الاجتماعية. وهذا يؤدي إلى حلقة مفرغة من معالجة المشكلات الفرعية فقط.
وفقًا لتحليل تفاعلات الخدمات، غالبًا ما تعطي القرارات الأولوية للمواقف التي يمكن الدفاع عنها على حساب النتائج الفعالة، مما يؤدي إلى تدخلات غير مجدية أو ضارة. لذلك، لكي يصبح هذا الأسلوب ممارسة معيارية، يجب توسيع نطاق عناصره التي لا تعتمد على النظام.
من خلال التركيز على بناء العلاقات وتعزيز قدرة الأفراد الداخلية على التغيير، يمكن للخدمات العامة أن تصبح أكثر فعالية وتحقيق نتائج أفضل باستخدام موارد أقل.
يعزز "الأسلوب المتحرر" من الإبداع والتعاطف الكامنين لدى العاملين في الخطوط الأمامية، ويمنحهم فرصة لتطوير رؤية جديدة تجاه أنفسهم والعالم، ثم ينقل هذه الفرصة للمستفيدين، حيث يكمن جوهر التحول الحقيقي. كما يعزز هذا النهج القيادة والشراكات والحوكمة داخل قطاع الخدمات العامة بشكل عام.
باختصار، يؤكد مفهوم "الأسلوب المرن" على أهمية الدافع الذاتي، ويفتح الباب أمام كل فرد لقيادة تحوله الشخصي بدلاً من الانغماس في الأنظمة الموحدة التي طالما اعتقدنا أنها ستناسب الجميع.
المراجع
• https://www.changingfuturesnorthumbria.co.uk/rethinking-public-service











