بينما تكافح كبريات مدن العالم انخفاضَ جودة الهواء، أطلقت صربيا مشروع الأشجار السائلة الذي يجمع بين التكنولوجيا الحيوية والفهم البيئي لوضع حلولٍ مستدامة وقابلة للتطوير للتلوث الحضري، وهي نقلةٌ من شأنها أن تُحدث ثورةً في الإدارة البيئية للمدن.
في متاهات الخرسانة والفولاذ التي نعيش بداخلها، وحيث يصل الطموح البشريّ إلى عنان السماء، يتربّص به عدوٌّ صامتٌ صنعَه بنفسه، وهو التلوث، الذي وُلد من قلب التقدّم والازدهار، ومن نسيج الحياة الحَضَريّة ذاتِها، ليضع مراكز الإبداع والثقافة الإنسانية في صراعٍ محمومٍ مع موجة التلوث الزاحفة.
ليس عبثاً أنّ التلوث يسمى القاتل الصامت، فهو يحصد سنوياً أرواحاً أكثرَ مما يحصده العديد من الأمراض الفتّاكة مجتمعة، فكلّ شيءٍ ملوّث، الهواء والماء والغذاء.
في صربيا، تعاني مدينة بلغراد كثيراً بسبب اعتمادها الكبير على طاقة الفحم، فهي تحتوي على محطّتين لتوليد الطاقة الكهربائية، ما حجزَ لها مكاناً في قائمة تحالف الصحة والبيئة للمدن الأكثر تلوثاً للعام 2019.
في العام التالي لذلك الإنجاز غير السار، أكّدت إحصاءاتُ جودة الهواء أنّ صربيا احتلت المرتبة 28 عالمياً في مستويات الجسيمة الدقيقة في الهواء، وهذه مرتبةٌ مقلقةٌ جداً، فهي تعني أنّ النِّسَبَ قد فاقت ما توصي به منظمة الصحة العالمية بحوالي 4.9 مرات.
لكي نضع الأرقام في سياقها، يجب أن نعرفَ أنّ الآثار الصحية أكثرُ من مدمّرة، حيث تصدّرت صربيا القارة العجوز برمتها في أعداد الوفيات المرتبطة بالتلوث في العام 2019. وما يزيد الصورةَ قتامةً هو أنّ أكثر من نصف السكان يعيشون في المناطق الحضرية، وأنّ التوسّع الحضريّ الكثيف لم يتوقف ولم تتباطأ وتيرتُه، ما يفاقِمُ مستويات التلوث وانبعاثات غازات الاحتباس الحراريّ، ويرسم واقعاً لا يمكن التغاضي عنه.
لم يكن فريق العلماء العاملين في معهد البحوث متعددة التخصصات في جامعة بلغراد بمنأى عن هذا المشهد، فوضعوا أيديهم بأيدي بلدية ستاري غراد وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي ووزارة حماية البيئة، ليطوّروا جميعاً مشروعاً مبتكراً هو الأول من نوعه في العالم، أطلقوا عليه اسم "الأشجار السائلة".
انطلق المشروع من فكرة أنّ مفتاح الحلّ لأكبر المشكلات قد يكون صغيراً وبسيطاً، بل وحتى دقيقاً، وبنى العلماء رؤيتهم مستندين إلى قدرة الطحالب الدقيقة على تنقية الهواء.
بدعمِ من الحكومة، أنشأوا مفاعِلاً حيوياً ضوئياً متعدّد الأوجه ومصمّماً لتنقية الهواء باستخدام هذه الطحالب التي تمتصّ ثاني أكسيد الكربون وتنتج الأكسجين من خلال عملية التمثيل الضوئي، وهي أكثر كفاءةً من الأشجار التقليدية بما يتراوح بين 10 إلى 50 ضعفاً. يتكوّن الجهاز من حوضٍ مائيٍّ يحتوي على 600 لترٍ من الماء العذب، وطحالب تعيش في المياه العذبة، كما يمكنها أن تعيش في مياه الصنبور وفي درجات حرارةٍ مختلفةٍ، ما يجعله بيئةً تزدهر فيها هذه الطحالب،
جرى تصميم هذا النظام بحيث لا يتطلّب جهود صيانةٍ كبيرة، حيث تخضع الكتلة الحيوية للطحالب للحصاد كلّ ستة أسابيع، وذلك بغرض استخدامها كسمادٍ عضويّ، في حين تُضاف المياه العذبة والمعادن للحفاظ على تعداد الطحالب وإطالة عمرها.
وُزِّعَت هذه الأجهزة في مواقع متعدّدةٍ من المدينة، وهي تتمتع بتصميمٍ يزيد من كفاءة المساحة ويضمن التشغيل المستمرّ والمستدام، إلى جانب الاستفادة من وجودها في أغراض مختلفةٍ بدلاً من أن تحتلّ مساحةً غير مستثمرةٍ على الأرصفة العامة. فعلى سبيل المثال، يأتي الجهاز بشكل مقعدٍ للعامة مزوّدٌ بمآخذ لشحن الهواتف المحمولة وألواحٍ لالتقاط الطاقة الشمسية وتوليد الكهرباء اللازمة لتشغيله على مدار الساعة.
لكن، رغم الإمكانات الكبيرة، ثمة تحدياتٌ تنتظر مشروع الأشجار السائلة. أولها، التوسع التكنولوجيّ، بمعنى عقبات نشر النظام في البيئات الحضرية المختلفة دون ضمان أن يكون فعالاً بالدرجة نفسها، وهذا ما تطلّبَ إجراءَ اختباراتٍ وصقلٍ مكثَّفٍ للتكيف مع الظروف المناخية والبيئية المتباينة.
ثم يأتي التقبّل العام في المرتبة الثانية، فالناس غالباً ما يقاومون الأفكارَ غير التقليدية، فما بالك بفكرة مقعدٍ يحلّ محلّ الأشجار والبساتين المألوفة للأعين؟ لهذا، كان لا بدّ من التغلّب على شكوك الجمهور لإدخال هذا الشكل الجديد من المساحات الخضراء، إذا صحّت تسميتُها بالمساحات!
أخيراً، الصيانة والمتانة، فقد كان ضمانُ استدامة النظام على المدى الطويل أمراً بالغ الأهمية، لا سيما في الظروف الجوية المتقلّبة أو شديدة التلوث. ويمكن القول إنّ عامل النجاح الأساسي لاجتياز هذه العقبة كان مرونة الطحالب نفسها وانخفاض حاجتها للصيانة.
حقّق مشروع الأشجار السائلة آثاراً بيئيةً ومجتمعيةً عميقة، فهو يوفّر حلاً عملياً للحد من التلوث الحضري وتحسين جودة الهواء والتخفيف من آثار تغيّر المناخ، بالإضافة إلى دعم التنوع البيولوجي المحلي وتوفير الأسمدة الطبيعية.
ولأنّه يوفر هواءً نظيفاً في المناطق المزدحمة والملوّثة دون أن يستهلك مساحةً تُذكر، فهو مؤهّل ليكون جزءاً أساسياً من البنية التحتية الحضرية، خاصةً وأنّه وسيلة ترفيهٍ عامةٌ يسهل الوصول إليها والاستفادة من خدماتها العملية، ما يجعله تجسيداً بليغاً للحلول في المدن الذكية.
المراجع:











