أمامَ تحدّياتٍ عديدةٍ تواجه مستقبل تخطيط الأراضي، طوّرت حكومة نورث ساوث ويلز في أستراليا أداةً شاملةً مبنية على البيانات المكانية لتحسين عمليات التخطيط الحضري، عبر تقييم الموقع ونُظُم المعلومات الجغرافية ومشاركة البيانات بين الكيانات المختلفة.
من حيث المفهوم، يحاول علم تخطيط الأراضي إدارة المساحات الريفية والحَضَرية، وتنظيمَ العلاقات الاجتماعيةَ المكانية، ويدرس النتائج الاقتصادية والبيئية للمشاريع الحضرية والطرق المثلى لتوزيع الموارد.
في بعض البلدان، تقع مهمة التخطيط على عاتق الحكومة المركزية، في حين نجدها في بلدانٍ أخرى سلطةً محليةً خاصةً بالمدينة أو المقاطعة، كما في حالة نورث ساوث ويلز بأستراليا، حيث تتولّى وزارة التخطيط والبيئة هذه الأعمال، فتسعى لتنظيم الزحف العمرانيّ والحفاظ على العناصر البيئية واحتواء ظاهرة التلوث الناجمة عن تلك الأنشطة. بيدَ أنّ نظاماً غيرَ متَّسِقٍ يحكم هذه الوزارة، حيث يستخدم كلّ كيانٍ حكوميٍّ أساليبَ وأدواتٍ وأنظمةً منفصلةً لتقييم وتحليل استخدام الأراضي، هذا من جهة، كما أن المنطقة محكومةٌ بتقسيمٍ جغرافيٍّ صارمٍ وطبيعةٍ خاصةٍ من حيث التضاريس من جهة أخرى. وعليه، فإنّ أعمال الدراسة والتحليل التي يقوم بها الاستشاريون تكون مرتفعة التكلفة وتُبنى عليها منهجيات تخطيطٍ معقّدة، بهامش خطأ كبير وهدرٍ مهولٍ للوقت والموارد.
لمقاربة هذه التحديات، تعاونت حكومة نورث ساوث ويلز مع شركاء من القطاع الخاص، لتطويرِ أداة مبتكرة تم إطلاقها في صيف العام 2022 بعد شراء 110 تراخيص أولية.
تجري هذه الأداة تقييماً كاملاً لاستراتيجية استخدام الأراضي التي تتبنّاها الحكومة، وتدرس إمكانية إقامة مشاريع جديدةٍ في مجالات الصحة أو التعليم أو الطاقة أو البنى التحتية أو الإسكان أو النقل، كما تعمل بمثابة منصةٍ مضيفةٍ للأنظمة الرقمية الأخرى المُعتمَدةِ في الحكومة.
تؤدي الأداة المكانية 4 وظائف رئيسية، فهي أولاً مكتبة شاملة للبيانات، إذ تجمع أكثر من 40 نموذجاً لاستخدامات الأراضي، وتعتمد على قاعدة بياناتٍ تضمّ 180 مجموعة. أما ثانياً، فتقوم بعمليات تحليلٍ جغرافية مركزية، إذ تجري دراسةً شاملةً لموقعٍ معيّنٍ من خلال مقارنته بغيره، وفقاً لمعايير منهجية، فتدرس مثلاً أداء السلطات المحلية وما إذا كان يحقّق أهداف الاستدامة والإنتاجية وصلاحية العيش الخاصة بالمنطقة نفسِها وبالإقليم الذي تتبع له. وتركّز الوظيفة الثالثة على مستوى أعمق، فهي عبارة عن بحثٍ تفصيليّ ضمن الموقع، يتضمّن الملكيات والحجم وضوابط التخطيط إلى جانب القيود والمخاطر والتأثيرات المناخية والقُرب من الخدمات والبنى التحتية والمرافق العامة وغيرها. وأخيراً، تبني الوظيفة الرابعة على سابقاتها جميعاً، فتسمى تخطيط السيناريو، حيث تضع الأداة مخططاتٍ مختلفةً وتستشرف الآثار التي قد يحقّقُها كلٌّ منها عبر المقاييس ذاتها، الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والمالية.
على سبيل المثال، تُستخدم الأداة حالياً لدعم استجابة الحكومة المحلية لظاهرة الفيضانات التي شهدها عموم الشرق الأستراليّ في العام 2022، حيث استطاعت البرمجيات– بالعودة إلى قواعد البيانات– تحديدَ المناطق القابلة لإقامة مساكن مؤقتة. مهمة عادةً ما تستغرق أسابيع أو حتى أشهر، لكنّ الأداة استطاعت إنجازها في غضون أيام.
يمكن لكلّ الكيانات الحكومية وغير الحكومية الوصولُ إلى هذه الأداة، شرطَ الحصول على الترخيص؛ وبمجرد صدوره، تستطيع هذه الجهات في أيّ ولايةٍ أو إقليمٍ الاستفادة من الأداة في تحديد آفاق التطوير والأراضي ذات الأولوية في المشاريع المستقبلية بما يتوافق والبنى التحتية الموجودة والخطط القائمة، ومن ثم إجراء تقييمٍ استباقيٍّ للموقع وقياس قابليته للتغيير، حيث يمكن إنشاء تصاميم ثلاثية الأبعاد للمخططات المقترحة لتتولى الأداة وضع السيناريوهات المتوقعة.
في الوقت الراهن، يعمل فريق المطوِّرين على دراسة جدوى لاستخدام الأداة على المدى البعيد بحساب عائداتها ومقارنتها بالتكلفة التشغيلية وإمكانية توسيع وصول الكيانات الحكومية إلى الأداة مع ضمان معايير الأمان وحماية البيانات الحساسة. وسوف تتعامل الأداة مستقبلاً مع قضايا المناخ والإسكان والتخطيط للمجتمعات الجديدة.
لم يكن المشروع بالسلاسة التي يبدو عليها، فقد واجه العديد من التحديات، أبرزُها الوصولُ إلى منتجٍ عمليٍّ ومتقدّمٍ وصالحٍ للحكومة بأكملها بميزانيةٍ محدودةٍ وضمن إطارٍ زمنيٍّ ضيق. لكنّ اجتياز هذا التحدي كان ممكناً من خلال التعاون المكثّف بين خيرة مختصي تكنولوجيا المعلومات من القطاعين الحكوميّ والخاص ومن مختلف الجهات الفاعلة. لعلّ الغريب أن يفرض ذلك تحدياً آخر، فتعدُّد الكيانات المشارِكة في تصميم أداة رقمية قد يعوق نجاح المشروع. لكنّ هذا التحدي كان متوقعاً، لهذا تبنّى الفريق الإداريّ استراتيجية التواصل المفتوح والمشاركة الفعالة منذ المراحل الأولى، ونجح في الحفاظ عليها حتى وضع اللمسات الأخيرة.
أما التحدي الثالث، فهو إتاحة الوصول إلى البيانات الحكومية الحساسة وجعلها في متناول المستخدمين. ولمقاربته، اعتمد فريق المشروع على إطار عمل حوكمة البيانات والتواصل الفعال ليبقى الاحتكاك في مشاركة البيانات ضمن حدوده الدنيا. ستقدّم هذه الأداة حلاً مطوّراً لتحديث عمليات التخطيط الاستراتيجيّ برمتها، وتوفّر ما يقارب 15 مليون دولار سنوياً، حتى أنّها قد تمثّل مصدر دخلٍ واعداً بحيث تحقّق التمويل الذاتيّ والتوسّع المستقبليّ، كما أنّها ستتيح للمؤسسات الحكومية تنسيقَ الجهود واختبار التصاميم وتطبيق النتائج ونمذجتها واتخاذ قراراتٍ سريعةٍ قائمةٍ على بيانات تتسم بالشفافية والاتساق.
المراجع:
- https://www.dpie.nsw.gov.au/our-work/programs-and-initiatives/technology-and-innovation
- https://oecd-opsi.org/innovations/land-iq/
- https://www.dpie.nsw.gov.au/news-and-events/articles/2022/land-iq-to-deliver-savings-speed-up-planning
- https://www.afr.com/property/commercial/nsw-cuts-months-from-land-assessment-times-20220724-p5b461