أعضاء على رقاقة … ثورة في اكتشافِ الأدوية والرعاية الصّحيّة

أعضاء على رقاقة … ثورة في اكتشافِ الأدوية والرعاية الصّحيّة

1 دقيقة قراءة
سعياً إلى توفير أدوية أكثر أماناً وفعالية، أثمرت جهود العلماء ابتكاراً سُمي "الأعضاء على الرقاقة"، يقوم على محاكاة العمليات الحيوية على مستوى خَلَويّ، ويَعِد بسدّ الفجوة بين النظرية العلاجية والتطبيق السريريّ.
شارك هذا المحتوى

أضف إلى المفضلة ♡ 0

سعياً إلى توفير أدوية أكثر أماناً وفعالية، أثمرت جهود العلماء ابتكاراً سُمي "الأعضاء على الرقاقة"، يقوم على محاكاة العمليات الحيوية على مستوى خَلَويّ، ويَعِد بسدّ الفجوة بين النظرية العلاجية والتطبيق السريريّ.

يُقال إنّ النقلات العظيمة عادةً ما تبدأ بخطواتٍ صغيرة، لكن في عالم الطب تكون هذه الخطوات أصغر. خطوات تصنع أعاجيبَ لا تُرى بالعين المجرّدة، مجهريةً، إلا أنها تختصر شيفرات العلاج وتحمل عوالمَ برمّتها.

لكنّ هذه الخطوات تتعثّر بالعقبات التقليدية لعمليات التطوير الدوائيّ، مثل نقص الأدوية الفعّالة لبعض الأمراض والتباين في فعالية الدواء بين المرضى والآثار الجانبية الشديدة المرتبطة بالأدوية الموجودة. من المعروف أنّ اعتماد الدواء غير ممكنٍ دون اختباراتٍ مطوَّلةٍ ومكثّفة، وأنَّ القيود الأخلاقية والعملية تمنع إجراءَ اختباراتٍ معيّنةً باستخدام دراساتٍ بشريةٍ. وبالرغم من شيوع الاختبارات التي تُجرى على الحيوانات، إلا أنها قد تخفق في التنبؤ بالاستجابات البشرية، فالتجارب السريرية قد أثبتت فشل 95% من الأدوية المطوَّرة من خلال البحوث على الحيوانات، وكأنّ المخاوف الأخلاقية والضغوط المجتمعية والسياسية التي تُحيط بهذه التجارب المؤذية ليست إشكاليةً بالقدر الكافي، لا سيما مع فرض إجرائها على نوعين من الحيوانات على الأقل. وعليه، عَلِقَ هذا المجال البحثيّ لسنواتٍ في دوامة الحاجة إلى بديلٍ آمنٍ وموثوقٍ ورحيم.

استدعت هذه الحاجة جهودَ علماء الأحياء والهندسة الحيوية، بالتعاون لاحقاً مع المعهد الوطني للمعايير والتكنولوجيا في الولايات المتحدة، الذين وجَّهوا تفكيرَهم إلى إيجاد طرائق لنمذجة وظائف الأعضاء البشرية، وهذا ما قادَ إلى ابتكار فكرة "الأعضاء على الرقاقة".

تتلخّص الفكرة في إنشاء نسخ مُصغّرة من الأعضاء البشرية على منصات للموائع الدقيقة لا يتجاوز حجمُها حجمَ إصبع، يمكنُ وصفها بشبكاتٍ من القنوات الصغيرة التي تحاكي بنيةَ الأعضاء البشرية الحقيقية ووظائفَها وظروفَها الفيزيولوجية، تُزرَع الخلايا داخلها ليتمكّن الباحثون من دراسة الاستجابات الخَلَويّة للعقاقير الجديدة.

استخدم الباحثون تقنيات متخصّصةً لصنع هذه الأجهزة الدقيقة، بحيث تضمن لهم تدفّقَ الموائع الدقيقة واستمرارَ التفاعلات الخَلَويّة تماماً كما يحدث داخل الجسد البشري. على سبيل المثال، يتّضح هذا النهج في تجربة "الرئة على الرقاقة" التي أُجريَت حوالي العام 2009، حيث تضمّنَ النموذجُ الناتجُ خلايا الرئة البشرية وخلايا الأوعية الدموية الشعرية، التي تحاكي وظيفة الحويصلات الهوائية.

تحتوي مثلُ هذه الأعضاء على أنسجةٍ بشريةٍ حيةٍ داخل قنواتها. تتمدّد هذه الأنسجة وتنقبض وتستجيب لعوامل خاضعةٍ للرقابة مثل السوائل والقوى الميكانيكية، وحين تُزرَع هذه الخلايا في بيئاتٍ تحاكي الجسم البشريّ، فهي ستعملُ وفقَ آلياته، وستتفاعل مع ما يدخلُ إليها من مواد وعقاقير.

بعد تطوير "الأعضاء على الرقاقة" في المختبرات الأكاديمية بدايةً، بدأت مرحلةٌ أوسع بكثير، وهي وضع المعايير وتوحيدُها ومراقبة الجودة. ولهذا، أنشأ المعهد الوطني للمعايير والتكنولوجيا بالولايات المتحدة مجموعةَ عملٍ لتحقيق هذا الغرض، وهو اليومَ يقود عملية "تقييس" هذا الابتكار، أي تحديد الخطوات والنماذج القياسية الموحّدة لاستخدام هذا الابتكار في الاختبارات ما قبل السريرية للأدوية. تركّز هذه العملية على الاعتبارات الهندسية وطرائق إنشاء بياناتٍ موثوقة وجمعها وتحليلها دون إغفال الممارسات الفضلى لمحاكاة أنظمة الأعضاء المختلفة في الجسم البشريّ.

لكنّ هذا التعقيد في الصناعة والتطوير لا يعني أبداً تعقيداً في الاستخدام، على العكس، سيكون تبسيط التصميم عنصراً أساسياً من الجهود المستقبلية، لجعل الابتكار قابلاً للتوسّع والتبنّي.

سيكون أمام هذه الجهود المستقبلية تحدّيات أخرى لا يُستهان بها، أوّلُها التكلفة والموارد، فتطوير هذه الأعضاء يتطلب استثماراتٍ ماليةً كبيرةً لتغطية تصنيع الأجهزة الدقيقة وتوفير الخلايا الخاصة وصيانة المعدات وغيرها، حتى أنّ مجموعات البحث الصغيرة المتفرّقة تواجه صعوبةً في هذا السياق نظراً لمحدودية الميزانيات.

أما التحدي الثاني، فهو عدم كفاية الخبرات، فهذا المسعى يحتاج عملَاً حثيثاً تقوم به نخبة النخبة في اختصاصاتٍ متعدّدةٍ ومعقّدة.

لاجتياز هذه التحديات وغيرها، لا بدّ من التعاون بين علماء الأحياء والمواد والهندسة الحيوية وربطِهم بالأوساط الأكاديمية والصناعية والهيئات الحكومية وغير الحكومية، إلى جانب تحقيق ديمقراطيّة الوصول لردمِ فجوات التمويل والخبرة والتسويق.

اليوم، تنتج أكثر من 60 شركة هذه الأجهزة للاستخدام التجاريّ، وتركّز على الكبد والكلى والرئة والأمعاء والدماغ. وقد أعربت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية عن ثقتها في هذه التقنية، خاصةً بعد قانون التحديث الذي صدر أواخر العام 2022.

أوروبياً أيضاً، تأسست جمعية خاصة لهذا المجال لدعم الأبحاث وتبادل المعلومات وتطوير إرشادات المستخدمين وتشكيل شبكات التدريب وإرساء البنى التحتية اللازمة.

مستقبلاً، يتوقّع الخبراء انخفاضاً يصل إلى 26% في إجمالي تكاليف البحث والتطوير، فهذه الأجهزة تبسِّط تحديد الأدوية اللازمة للمرضى وتقلّل المضاعفات، ما يمنحهم علاجاتٍ أكثر أماناً وفاعليةً من حيث التكلفة. كما يمكن أن تخدم هذه الخطوة النهجَ العلاجي الذي يركز على المريض وتطويرَ الأدوية المخصّصة.

تمتدّ آفاق هذا الابتكار أبعدَ من تطوير الأدوية، حيث يمكن الاستفادة منها ضمن صناعة الأغذية ومستحضرات التجميل والكيماويات، عبر تجربة المنتجات وتقييم تأثيراتها الإيجابية والسلبية واحتمالات تسبُّبِها بالحساسية، وحتى الحيواناتُ التي عانت كثيراً من اختبارات الأدوية، يمكن أن تحظى بأدويةٍ بيطريةٍ تمت تجربتُها مسبقاً باستخدام هذه التقنية.

باختصارٍ شديد، تُبَشِّر فكرة "الأعضاء على الرقاقة" بتقدم علميّ ينقل صناعة الأدوية إلى مستوى أكثر كفاءة وأماناً وأخلاقيةً وإنسانية.

المراجع:

اشترك في منصة ابتكر لتبقَ على اطلاع على أحدث المبادرات والمساقات والأدوات والابتكارات الحكومية
قم بالتسجيل
اشترك في النشرة الإخبارية لمنصة ابتكر
القائمة البريدية للمبتكرين
تصل نشرتنا الإخبارية إلى أكثر من 30 ألف مبتكر من جميع أنحاء العالم!
اطلع على النشرة الإخبارية لدينا لتكون أول من يكتشف الابتكارات الجديدة و المثيرة و الأفكار الملهمة من حول العالم التي تجعلك جزءاً من المستقبل.
Subscription Form (#8)
المزيد من ابتكر

حين تسهم البيانات في تدفئة المنازل: الدانمرك تعيد استخدام حرارة الخوادم

في نهج مبتكر يحوّل مشكلة بيئية إلى حل مستدام، ويخفض الانبعاثات الكربونية، ويوفر دفئاً مستقراً للمساكن، تستخدم الدانمرك الحرارة الفائضة من مراكز البيانات لتدفئة آلاف المنازل. وبدلاً من هدر الطاقة، تعمل مشاريع مثل تلك التي تقودها مايكروسوفت وميتا على توجيه الحرارة عبر مضخات متطورة إلى شبكات التدفئة المحلية.

 · · 15 ديسمبر 2025

شعاب مرجانية تنبض بالحياة: ابتكارات تعيد الأمل إلى النظم البيئية المحتضرة

فيما تواجه الشعاب المرجانية خطر الانقراض بسبب تغيّر المناخ والتلوث والصيد الجائر، ما يؤدي إلى فقدان نظم بيئية بحرية حيوية تدعم ملايين البشر، تأتي مبادرة "كورال فيتا" التي طورت حلاً مبتكراً يتمثل في زراعة الشعاب المرجانية على اليابسة باستخدام تقنيات متقدمة مثل التجزئة الدقيقة والتطور المدعوم، لتسرّع نمو المرجان وتزيد من قدرته على التكيّف مع ظروف المحيط المتغيرة.

 · · 15 ديسمبر 2025

بيانات تُنبت محصولاً أوفر: كيف تشهد الهند ثورة زراعيّة

في مواجهة تحديات تغيّر المناخ وتدهور التربة وندرة الموارد، يواجه مزارعو الهند صعوبات متزايدة تهدد استدامة محاصيلهم. لكن شراكة مبتكرة بين شركتين غيّرت المعادلة، من خلال نظام ذكي يجمع بيانات التربة ويحللها لحظياً ليمنح المزارعين توصيات دقيقة حول الري والتغذية، ما يعزز الإنتاجية، ويقلل الهدر، ويفتح باباً جديداً لزراعة أكثر استدامة وربحاً

 · · 12 ديسمبر 2025

الصقر الآلي يحمي الطيورَ من الطائرات … والطائراتِ من الطيور

مع استمرار توسّع قطاع الطيران، يبقى ضمان سلامة الرحلات الجوية مع حماية الحياة البرية تحدياً كبيراً تعدّدت مقارباتُه. مؤخراً، ظهرت فكرة الصقر الآليّ، الذي أدمج التكنولوجيا المتقدمة ومبادئ الطبيعة، فقدّم معياراً جديداً في مجال سلامة الطيران والحفاظ على الحياة البرية.

 · · 29 أكتوبر 2025

إنترنت الحيوانات … لمحةٌ عن تقنيةٍ جديدةٍ لضم الكائنات الأخرى على الإنترنت

في مشهدٍ يشبه التواصل اللحظيّ للبشر أينما كانوا، أصبح بالإمكان اليوم تسجيل كلّ رفرفةٍ لجناح طائرٍ أو كلّ دبيب حشرة. إنّه الواقع المتطوّر الذي تَعِدُ به أحدث أنظمة القياس عن بُعد، التي تتبّع حركة الحيوانات وتوفّر بياناتٍ مهمةً للأبحاث، ليس لاستكشاف آفاق التكنولوجيا فقط، بل للحفاظ على التنوّع البيولوجيّ لكوكب الأرض.

 · · 29 أكتوبر 2025
magnifiercrossmenuchevron-downarrow-right