مع تزايد وتيرة حرائق الغابات وشدَّتِها، حلّقت الحلول المبتكَرة، بالمعنى الحرفي للتحليق، إذ برزَ استخدامُ المناطيد المزودة بمستشعِراتٍ متطورّة ترصد المناطق من علوّ وتجمع البيانات الحية، وتغيّر بذلك أسلوب التعامل مع الحرائق.
النار، حليفُ الإنسان الأعظم وعدوّه الألدُّ في آنٍ معاً. لولاها لما تطوّر، فهي مصدر الدفء والطهي والنور والطاقة، لكنها قد تتحوّل في لحظةٍ إلى قوةٍ مدمرةٍ لا يمكن احتواؤها.
في اللحظة التي تخرج فيها عن السيطرة، يمكن للحرائق أن تدمِّر المجتمعات والنظم البيئية وتودي بالأرواح وتلتهم الغطاء الأخضر دون توقّف، ضمن الظاهرة المعروفة بحرائق الغابات، وهي تمثّل اليومَ خطراً متنامياً بسبب تغيّر المناخ والعامل البشريّ. وما الحرائق الأخيرة التي شهدتها لوس أنجلوس إلا مثالٌ صارخٌ على هذه المخاطر المتزايدة.
وتاريخياً، كان من الصعب تحديد أماكن اندلاع الحرائق ومواعيدها بدقة. وغالباً ما تكون الطرائق التقليديّة لاستكشاف حرائق الغابات مقيَّدة. لنأخذ الأقمار الصناعيّة مثلاً، فهي في معظم الأحيان توفّر صوراً منخفضة الدقّة، والأسوأ أنّها تتأخر في الوصول إلى من يحتاجونها، أو تصل بعد فوات الأوان، أما الطائرات والمروحيات، فتكلفتُها المرتفعة تطغى على صورِها الدقيقة والمفصَّلة، التي يصدف أن تكون أقربَ ممّا ينبغي بحيث لا توفّر صورةً كاملةً للمشهد. والأهمّ هو أنّها تنطوي على مجازفةٍ حقيقيةٍ بأرواح الطيارين الذين يحلّقون فوق مناطق الحرائق المستعِرة. ومع أنّ الطائرات بدون طيّار أكثر أماناً وكفاءةً من حيث التكلفة، ففترات تحليقها وقدراتها على الارتفاع محدودة.
بطبيعة الحال، فإنّ تحدياً بهذه الجسامة يتطلّب مقاربةً من خارج الصندوق. وقد أخذت شركة "أُربان سكاي" الأمريكية زمامَ المبادرة، وهي الرائدة في استخدام المناطيد العالية في الكشف عن حرائق الغابات ورصدها ومراقبتها.
تستفيد هذه الشركة ومثيلاتُها من خبراتِها في مجال التقنيّات “الأخف من الهواء” لتطوِّر وتنشر أنظمة المناطيد المتقدمة التي يمكنها العمل باستقلاليةٍ وعلى ارتفاعات عالية لتجمع معلوماتٍ حيّةً وتقيس درجات الحرارة على مستوى الأرض وتكشف الحرائق من مرتفَع وترسل إشارات الكشف المبكّر إلى فِرَق الاستجابة للحرائق للتحرّك سريعاً.
يقوم نهج الشركة على إطلاق المناطيد من صناديق الشاحنات، بعد أن تُعَبَّأ بغاز الهيدروجين أو الهيليوم المضغوط وتُربَط بساريةٍ ممتدّةٍ من الشاحنة نفسِها. أثناء صعوده، يمتلئ المنطاد بجزيئات الغاز الأخف وزناً من الهواء المحيط به، مما يسمح له بالارتفاع أعلى وأعلى، لكن دون أن يتداخل مع حركة المجال الجويّ أو مع الحرائق نفسها. بعد ذلك، سيكون في وسع المنطاد أن يحلِّق فوق مواقع مختارةٍ بعنايةٍ باستخدام برامج الطقس، وذلك لضمان أن يتحرّك على الارتفاعات الصحيحة فوق الحرائق. وتستغرق عملية الانطلاق هذه حوالي 10 دقائق، بمجرد تحديد موقع الحريق، حيث يمكن للمناطيد أن تحوم فوق النار لمدة 18 ساعة تقريباً مستفيدةً من الظروف الجوية.
ولأنّها مزوَّدةٌ بنظام استشعارٍ يعمل بالأشعّة تحت الحمراء، فهي توفِّر خلال هذه الساعات صوراً فوريةً واضحةً للنقاط الحرارية بدقّة ثلاثة أمتارٍ ونصف، مما يتيح الكشف عن الأشجار المتضرّرة كلّاً بعينها، إذ يرسل المعالج الموجود على متن المنطاد معلوماتٍ حيةً عن النقاط الساخنة إلى الفِرَق الأرضية عبر شبكات الاتصالات المعتمِدة على الأقمار الاصطناعية.
واجهت الشركة العديد من التحدّيات أثناء تطوير هذا النظام ونشره. أحد أبزر التحديات كان ضمانَ دقّة المستشعِرات في تحديد الموقع الجغرافيّ. ولمواجهته، استثمرت الشركة في ترقية تقنية الأجهزة وقدرات البث إلى أجهزة الاستقبال الأرضية .
وتمثَّل تحدٍّ آخر في تطوير نظام اتصالات موثوق به لنقل البيانات من أجهزة الاستشعار مباشرةً إلى طواقم الإطفاء العاملة على الأرض، وهو ما تطلّب التعاون مع شركاء متعدّدين من بينهم رائدون في التكنولوجيا المتقدّمة للاتصال وتبادل المعلومات.
لكنّ التحدّي الأكبر كان متعلِّقاً بطريقة إدارة المناطيد وتشغيلها على ارتفاعاتٍ كبيرة، حيث سيتعيّن عليها تحمُّلُ الظروف الجوية المتغيرة والحفاظُ على استقرارها أثناء جمع البيانات، كما ينبغي ضمانُ قابليّتها للعمل دونٍ تدخّلٍ بشريّ، وهذه تحدّياتٌ تشغيليةٌ ارتبطت فعلياً بإثبات المفهوم وتطلَّبت الكثير من جهود التطوير والبحث لتبقى المخاطرُ ضمن حدودِها الدنيا والكفاءةُ ضمن حدودِها القصوى، لا سيما بوجود عدّة شركاتٍ تعمل على ترقيتِها بحيث ترصد اتجاهات الرياح أو تحلّق لأشهر أو تعمل ضمن أساطيل أو تعتمد على الطاقة الشمسية.
بنتيجة هذه الجهود، أسفر النهج المبتكر عن نتائج مهمّة، إذ حظيت التقنية بالاهتمام والتمويل الحكوميَّين، فأقامت الشركة تعاوناً مع مكتب تكنولوجيا علوم الأرض التابع لوكالة ناسا، وكانت قيمتُه كبيرةً إلى الحدّ الذي سيمكّنها من تعزيز دقة مستشعِراتها وتحسين قدرات نقل البيانات وتطوير نظام اتصال قوي مع الفرق الأرضية.
وقد أثبتت المناطيد فعّاليتها في الكشف عن الحرائق ومراقبة اتّساع رقعتها ورسم الخرائط، وكلّ هذا دون الحاجة للعنصر البشريّ أو تعريضه للخطر. وهي بذلك تسمح للفرق الميدانية بالتعامل مع الحرائق بكفاءة والتنبؤ بها والتخفيف من حدَّتِها، وبالتالي، إنقاذ مساحاتٍ كبيرةٍ من الأرواح والأراضي ومصادر الرزق.
ومع استمرار تطوّر هذه التكنولوجيا، فهي تَعِدُ بإمكانياتٍ مستقبليةٍ وتوسُّعٍ كبير وحمايةٍ أفضل للبيئات والمجتمعات.
المراجع:
- MIT Technology review - tracking wildfires
- Forest service testing hot air balloons to track wildfires
- Tethered hot air balloons in Marseilles, France
- Urbansky wins NASA contract
- EU funded projects to tackle wildfires
- Raven Aerostar technology to tackle wildfires
- Aerostar website
- https://www.bbc.com/news/articles/c1m5r5zp0lno











