نتج عن جائحة كوفيد-19 تبعات اقتصادية واجتماعية وبيئية أدت إلى دفع العديد من الحكومات حول العالم إلى إعادة النظر في سياساتها العامة. وكانت كوريا الجنوبية أحد الدول التي وجدت ضمن هذه الظروف غير المسبوقة فرصةً للتغيير، حيث أطلقت مؤخراً "صفقة كوريا الجديدة" التي تعنى بتطوير قطاعين مهمين لمستقبل البلاد وهما القطاع الرقمي والقطاع البيئي.
مع الواقع الجديد الذي فرضته جائحة كوفيد-19، بما فيه من تحديات انعكست على مختلف الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والصحية والتعليمية وغيرها، ولّت حكومة كوريا الجنوبية اهتماماً بالتغييرات التي بدأت تطرأ على سلوكيات المواطنين، والتي يمكنها المساهمة في إعادة هيكلة الاقتصاد والمجتمع. شملت هذه التغييرات الطلب المتزايد على الخدمات التي تتم بالكامل عبر المنصات الإلكترونية من دون الحاجة إلى الحضور الشخصي. فقد أشارت دراسات حديثة في كوريا الجنوبية إلى زيادة حجم التجارة الإلكترونية من حوالي 23% من إجمالي قيمة الاستهلاك في شهر يناير 2020 إلى متوسط شهري قارب 27% بين فبراير ومايو في العام ذاته. ومن جهة أخرى، تتوجه السوق المحلية في كوريا الجنوبية نحو تقنيات الأتمتة بشكل متسارع، ما نتج عنه زيادة معدلات البطالة ضمن شريحة العمالة التي تعتمد على المهارات اليدوية ، حيث تحتاج هذه الشريحة إلى إعادة تأهيل مهني للتأقلم مع التطورات الرقمية.
على ضوء هذه التحديات الاقتصادية، وحاجة كوريا الجنوبية إلى التوجه نحو اقتصاد أخضر بعد أن أكدت التزامها الدولي للتصدي لتغير المناخ، قررت حكومة البلاد أن تطلق "صفقة كوريا الجديدة"، والتي تتركز حول ثلاث محاور رئيسية، أولها "الصفقة الرقميّة الجديدة"، التي تهدف إلى التأسيس لاقتصاد رقمي وتنمية القدرات الرقمية للمواطنين، و"الصفقة الخضراء الجديدة" التي تعنى بتسريع التحول نحو الاقتصاد الأخضر؛ وثالثها تعزيز شبكة الأمان الاجتماعية للقوى العاملة. ولتحقيق هذه الرؤية الطموحة، عملت حكومة كوريا الجنوبية على إشراك القطاع الخاص من خلال إقامة 10 مشاريع رئيسية، ستشكل المحاور الأولى في عملية التحول الرقمي والبيئي في كوريا، كما ستساهم في توفير فرص عمل جديدة.
ومن أهم المشاريع المُدرجة في الخطة المستحدثة مشروع "الحكومة الذكية" والذي ينص على تحديث الخدمات الحكومية من خلال تبني أحدث التقنيات، كالبلوك تشين وشبكات الجيل الخامس للاتصالات، وتطبيق "التوأمة الرقمية" للمساعدة في تخطيط وإدارة المدن في المستقبل. ولتنفيذ المشاريع المُدرجة في الخطة، خصصت الحكومة مبلغ 102 مليار دولار أمريكي للمراحل المتعددة من المشاريع لغاية عام 2025، ومن المتوقع أن تساهم الصفقة في استحداث أسواق جديدة وإنعاش القطاع الخاص.
يتطلب تنفيذ "صفقة كوريا الجديدة" إجراء تعديلات في البيئة التنظيمية والتشريعية وإعادة النظر في إطار العمل المؤسسي لدعم الابتكار وتشجيع مشاركة القطاع الخاص في المشاريع المطروحة. ويهدف الشق الأول من الوثيقة، تحت مسمى "الصفقة الرقميّة الجديدة"، إلى تعزيز القدرات الرقمية لكوريا الجنوبية من خلال إنشاء بنية تحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات – تشمل "بنكاً للبيانات" (Data Dam) يتيح تحليل البيانات الضخمة ويفتح المجال أمام صناع القرار لاتخاذ القرارات المدعّمة بالأدلة نحو بناء صناعات جديدة وتسريع التحول الرقمي في كوريا الجنوبية.
وعلى الرغم من أن كوريا الجنوبية متفوقة عالمياً على صعيد الحوكمة الرقمية، إلا أنها تسعى لتقديم خدمات ذكية بالكامل عبر تبني تقنيات مثل البلوك تشين، واتصالات الجيل الخامس. أما المجالات الرئيسية التي تنص عليها "الصفقة الرقمية الجديدة"، فتتضمن:
- تعزيز عملية دمج وتكامل الشبكات الرقمية المتواجدة عبر قطاعات الاقتصاد المختلفة، بما يشمل البيانات، وشبكات الجيل الخامس للاتصالات، ونظم الذكاء الاصطناعي، بهدف إنشاء خدمات ومنتجات رقمية مبتكرة من ناحية، وتعزيز إنتاجية الاقتصاد الوطني من ناحية أخرى.
- رقمنة البنية التحتية لقطاع التعليم من خلال استحداث وسائل تعليمية تدمج ما بين التعليم التقليدي والتعليم عن بعد في المناهج التدريسية في جميع المراحل الدراسية والتدريب المهني.
- وضع البنية التحتية اللازمة والتشجيع على تقديم الخدمات بشكل إلكتروني دون الحاجة إلى تواجد المتعاملين شخصياً.
أما "الصفقة الخضراء الجديدة"، فتركّز على التحول نحو مستقبل صديق للبيئة في مجالات عدّة بميزانية تقارب 27 مليار دولار على مدى الأعوام الخمسة القادمة، تشمل استثمارات لاستحداث نحو 387 ألف فرصة عمل جديدة. كما تُبرز الوثيقة أهمية التوجه نحو الصناعات القائمة على وسائل مستدامة والتي تساهم في التصدي لتحديات تغير المناخ والمخاطر البيئية الأخرى التي تتعرض لها البلاد.
وبما أن كوريا الجنوبية من الدول السباقة في القطاع الرقمي، فإن التحديثات التي تنوي القيام بها في هذا المجال تحظى بدعم كبير وبنية تحتية قوية. أما بالنسبة للأهداف المُدرجة تحت القطاع البيئي، فيتوقع الخبراء أن تواجه الحكومة تحديات جمّة لتنفيذها، نظراً لاعتماد البلاد على الوقود الأحفوري وخصوصاً الفحم. فبالرغم من أن كوريا الجنوبية التزمت دولياً بخفض انبعاثات الكربون الصادرة عنها، إلا أن حكومتها لا تزال بحاجة إلى بذل جهود مكثفة وإرساء سياسات وقوانين جديدة للوصول إلى هذه الأهداف البيئية في المستقبل القريب.
تسعى كوريا الجنوبية من خلال "صفقة كوريا الجديدة" إلى تعزيز اقتصادها تحسباً لما قد يطرأ مستقبلاً، حيث ألحقت جائحة كوفيد-19 أضراراً اقتصادية كبيرة في قطاع الخدمات التقليدية والأعمال التجارية الصغيرة والمتوسطة التي تنقصها الإمكانات الإلكترونية. ولذلك تركّز الصفقة الجديدة بشكل خاص على تدريب الموارد البشرية للالتحاق بقطاع العمل الرقمي وبالتالي تعزيز الأمان الاجتماعي للقوى العاملة.
المراجع:
https://english.moef.go.kr/pc/selectTbPressCenterDtl.do?boardCd=N0001&seq=4948