من شبكةٍ غير رسميةٍ إلى منظومةٍ متكاملة … ثورة الحافلات الصغيرة في جاكرتا

من شبكةٍ غير رسميةٍ إلى منظومةٍ متكاملة … ثورة الحافلات الصغيرة في جاكرتا

1 دقيقة قراءة
في سعيها لحل تحديات النقل الحضري التي واجهتها لسنوات، قررت جاكرتا، عاصمة إندونيسيا، مقاربتها بتبنّي النهج الشموليّ الذي يدمج منظومات النقل المختلفة ويوحّد إجراءاتها التشغيلية ليضاعف عددَ المستفيدين منها في غضون أربع سنواتٍ فقط.
شارك هذا المحتوى

أضف إلى المفضلة ♡ 0

في سعيها لحل تحديات النقل الحضري التي واجهتها لسنوات، قررت جاكرتا، عاصمة إندونيسيا، مقاربتها بتبنّي النهج الشموليّ الذي يدمج منظومات النقل المختلفة ويوحّد إجراءاتها التشغيلية ليضاعف عددَ المستفيدين منها في غضون أربع سنواتٍ فقط.

المناطق الحضرية محرّكاتٌ ديناميكيةٌ للنمو الاقتصاديّ والثقافيّ، وتوسُّعها الكبير مصحوب دائماً بتحدّياتٍ لا تقلّ عنه حجماً، فللمدن بنى اجتماعية متداخلة، تزيدها الكثافةُ السكّانية المرتفعة وتركيزُ الأنشطة الاقتصادية تعقيداً.

تقدّم آسيا مثالاً نموذجياً على هذا، وهو مدينة جاكرتا الواقعة في قلب إندونيسيا الصاخب، بزحفٍ عمرانيٍّ واسعٍ لا يقتصر على العاصمة، بل ويشمل عدّة مدنٍ وبلداتٍ مجاورةً لها، ما يجعلها مدينةً حيويّةً يقطنها 32 مليون نسمةٍ يتحرّكون عبر شبكة نقلٍ معقّدةٍ تحمل اسم "ترانس جاكرتا" (منظومة جاكرتا للنقل)، التي تضمّ نظام النقل الداخلي السريع بالحافلات، وهو أحد أطول الأنظمة في العالم، حيث خصّصت له الحكومة مساراتٍ تغطّي مسافة 251.2 كيلومتر. ومنذ إنشائه في العام 2004، تواظب 4300 حافلة على نقل أكثر من 300 ألف شخصٍ عبر شوارع العاصمة يومياً.

لهذه الشبكة الرسميّة رديفٌ غير رسميّ يساندها يُسمّيه السكّان المحلّيون "أنجكوت". وهي حافلاتٌ صغيرةٌ عُدّت لسنواتٍ جزءاً من مفهوم "النّقل النظير أو البديل" الذي يوصل الركّاب دون مساراتٍ أو جداول زمنيةٍ ثابتة. في مرحلةٍ ما بدا ضرورياً إدماج هذه الشبكات في المنظومة الكبرى وإضفاءُ الطابع الرسميّ عليها. لكنّ هذا ليس سوى جزءٍ من المشكلة، فجوهر معضلة جاكرتا يتمثّل بجودة الهواء، حيث غالباً ما تحصل على مرتبات متدنية في هذا الجانب. صدارةٌ مفزعةٌ ترجع في المقام الأول إلى انبعاثات المركبات والدراجات الناريّة، التي تغصّ بها شوارع المدينة، وخاصةً خلال ساعات الذروة، راسمةً حلقةً مفرغةً من الاختناقات المروريّة والهواء الملوّث، وتفاوت إمكانيات الوصول إلى وسائل النقل.

لهذا، أسّست حكومة جاكرتا الإقليميّة تحالفاً مع مشغّلي النّقل النظير ومسؤولي المدينة وعدد من وكالات النقل بهدف معالجة أزمة النقل في المدينة من خلال حلٍّ شاملٍ ومتكامل.

انطلقت رحلة الإصلاح عام 2017 بإدخال التحسينات إلى حافلات "أنجكوت"، لتعزيز السلامة والراحة وجذب المزيد من الركاب.

على سبيل المثال، طوّر التحالف نظام رسومٍ متكاملاً يشمل أساطيل الحافلات والنقل الجماعيّ السريع والسكك الحديدية الخفيفة، والـ"أنجكوت" بالطبع، وذلك ليضمن للركّاب رحلاتٍ مريحةً بتكلفةٍ ميسورةٍ وغير قابلةٍ للتلاعب ويمكن تسديدُها من خلال بطاقاتٍ خاصّة.

بدأ ذلك ببرنامجٍ تجريبيٍّ، حمل اسم "تذكرةٌ واحدةٌ لرحلةٍ واحدة"، على أن تستمرّ هذه الرحلةُ 3 ساعات. وعلى مدى 10 أشهر، شهد البرنامج الإدماجَ التدريجيّ للحافلات الصغيرة في المنظومة الرسميّة، بدءاً بمشغِّلَين يغطّيان 5 مساراتٍ تعبرها 76 أسطولاً، مع توسيعٍ متأنٍّ وصل في نهاية التجربة إلى 21 مساراً تستوعب 497 أسطولاً.

بَنَت جاكرتا نموذجاً تشغيلياً جديداً، فنقلت المشغِّلين من العمل الفرديّ إلى التعاونيّ الخاضع لخطّة تشغيلٍ موحّدةٍ ومحدّدةٍ زمانياً ومكانياً، كما أبرمت عقوداً ملزِمةً معهم تَنْظُم الشراكة القائمةَ وترصد لكلٍّ منهم دخلاً شهرياً ثابتاً تحدِّدُه المسافةُ المقطوعة، لا عددُ الركّاب. وتبيّن هذه المستندات القانونيّة الحدّ الأقصى للمسافة المسموح بقطعها يومياً، وهو 200 كيلومتر، كما تشرح معايير السلامة والراحة والوصول، وتحدّد الغرامات المفروضة على المخالفين، وتمكّن السائقين من الحصول على قروضٍ لتجديد مركباتهم التي تلتزم "ترانس جاكرتا" بصيانتها. وكلُّ هذا مصحوبٌ بأدواتٍ للمراقبة المباشرة، مثل الكاميرات ونظام تحديد المواقع العالميّ لتحسين تجربة الركّاب ومراقبة سلوك السائقين.

كما أطلقت الحكومة مبادراتٍ متنوّعةً مثل مرافق "الركن والقيادة" التي أُنشِئَت قرب محطّات الحافلات السريعة لتشجّع النّاس على التحوّل من السيارات الخاصة إلى وسائل النقل العام للوصول إلى وسط المدينة، أو "سياسة المرور الفردية/الزوجية"، التي تقيّد دخول السيارات إلى المدينة خلال الأيام التي يصادفُ تاريخُها رقماً فردياً أو زوجيّاً من الشهر، أو "يوم أحد بلا سيارات"، التي تتضمّن أنشطةً عامةً وحملات توعية.

علاوةً على ذلك، يجري العمل حالياً على مشروع تحويل المنظومة بالكامل إلى مركباتٍ كهربائيّة، حيث وصل عددُ الأخيرة إلى 1000 في خريف العام 2023، على أمل أن يكون الأسطول كهربائياً بالكامل بحلول العام 2030.

واستباقاً لتحدّي رفض أصحاب المصلحة أو خوفهم من نقلةٍ بهذا الحجم، حرصت حكومة جاكرتا على استمرار النقاشات مع مختلف فئاتهم، وأجرت استطلاعات الرأي العامة وفتحت باب الحوار حول ضمان انتقالٍ عادلٍ للجميع، مع العمل التعاونيّ لوضع الخطط ومقاييس المراقبة ومعايير التقييم.

أفسحت الإدارة الموحّدة والتنظيم القانونيّ المجالَ لظهور هيئاتٍ تمثيليةٍ بين المشغِّلين، مما عزّز العمل التعاونيّ والعلاقات التكافليّة فيما بينهم، وساهم في توجيههم صوب ممارسات العمل المستدامة، وقلّل خطر وقوع الحوادث.

بفضل توحيد التكاليف والمواعيد والمسارات وآليات العمل، أتاحَ النظام المتكامل الوصولَ إلى المواصلات العامة لـ82% من السكان، حسب الأرقام المُسجلّة في العام 2021، وهو ارتفاعٌ ملفتٌ مقارنةً بنسبة 42% التي شهدها العام 2017. كما أنّ السنوات الأربع نفسَها شهدت ارتفاع عدد الركاب اليوميّ من 300 ألفٍ إلى أكثر من مليون شخص، حيث تفخر الحافلات الصغيرة بأنّها تقلّ 60% منهم، مما يشكّل تجربة فريدة في التخطيط الحضريّ المبتكر يمكن الاستفادة منه بدروس للمدن الأخرى.

من خلال تبنّي نهجٍ مرحليٍّ وشاملٍ واستراتيجيٍّ كهذا، لن تحسّن المدن منظومات النقل العام فحسب، بل وستتمكّن من معالجة قضايا أوسع مثل الازدحام والتلوث وعدالة الوصول.

المراجع:

اشترك في منصة ابتكر لتبقَ على اطلاع على أحدث المبادرات والمساقات والأدوات والابتكارات الحكومية
قم بالتسجيل
اشترك في النشرة الإخبارية لمنصة ابتكر
القائمة البريدية للمبتكرين
تصل نشرتنا الإخبارية إلى أكثر من 30 ألف مبتكر من جميع أنحاء العالم!
اطلع على النشرة الإخبارية لدينا لتكون أول من يكتشف الابتكارات الجديدة و المثيرة و الأفكار الملهمة من حول العالم التي تجعلك جزءاً من المستقبل.
Subscription Form (#8)
المزيد من ابتكر

مدينة شارفت على الجفاف: دروس مستفادة من تجربة كيب تاون في تجنب أزمة المياه

تحرصُ المدن الكبرى على التخطيط والاستثمار لضمان توفير أهم مورد طبيعي لسكانها، وهو المياه، خاصة في ظل التحديات التي يفرضها تغير المناخ، الذي يؤثر سلباً على صعيدين. فهو يؤدي إلى شح المياه، وهو أيضاً يساهم في تعجيل التضخم السكاني بسبب الهجرة المتنامية لسكان القرى والأرياف نحو المدن، مع تراجع الظروف المناخية المناسبة التي تعتمد عليها […]

 · · 22 أغسطس 2024

سدّ فجوة التوظيف عبر مشروع وحدات التوظيف المتنقّلة في فينيكس

لمواجهة تحدٍّ صعب، أطلقت بلدية مدينة فينيكس بولاية أريزونا الأمريكيّة مشروعَ وحدات التّوظيف المتنقّلة، التي تأخذ بيد الباحث عن عملٍ عبر التدريب والتوجيه والدعم إلى أن يعثر على فرصته، مُحدِثةً تحوّلاً من النماذج المركزيّة الثابتة إلى الأساليب الديناميكيّة الموجّهة نحو المجتمع، ومقدِّمةً دروساً قيِّمةً في الإدارة الحَضَريّة وتقديم الخدمات العامة، في تجربة أوصلتها إلى تحدّي رؤساء البلديّات العالميّ.

 · · 23 يوليو 2024

رؤية "صفر نفايات": حالة إدارة النفايات المبتكرة في كيل

في ظل تفاقم ظاهرة التغير المناخي، تبنت مدن العالم مجموعة من الحلول للتعامل مع مشكلة النفايات، ومع ذلك بقيت تلك الحلول جزئية، قصرت عن معالجة المشكلة بشكل كامل. فما تزال مكبات النفايات تلوث التربة والمياه الجوفية، والمحارق تبث غازات الاحتباس الحراري، والفضلات تلوث البحار. لكن مدينة "كيل" الألمانية قطعت شوطاً كبيراً في مسارها لأن تصبح مدينة خالية كلياً من النفايات، أو ما يسمى بمفهوم "صفر نفايات"، وذلك من خلال تطوير استراتيجية شاملة في إدارة النفايات تعالج جميع جوانب انتاج، وإعادة تدوير، وتراكم النفايات، وتساهم في تحويل المشكلة إلى فرص اقتصادية مستدامة.

 · · 24 يونيو 2024

سانتياغو تعالج قضية جودة الهواء عبر تكنولوجيا النقل العام المُحسّنة

لتحسين بنية نقلٍ متهالكةٍ تفاقِم التلوث، بدأت مدينة سانتياغو بتشيلي رحلةً تحويليةً تشمل رفدَ أسطولِ النقل بحافلاتٍ حديثةٍ وصديقةٍ للبيئة، وتطويرَ حلول نقلٍ مبتكرة تهدف لتحسين مستوى الحياة اليومية لسكانها.

 · · 24 يونيو 2024

شكلٌ جديدٌ للشحن الحَضَريّ، حلولٌ رائدةٌ لمدنٍ أكثر استدامة

لمواجهة تحدٍّ بيئيٍّ متصاعدٍ يفرضه الشحن الحضريّ، تعمل حكومات مدنٍ عديدةٍ مثل روزاريو وبوغوتا وكوتشي وشيملا وباناجي على لعب دورها الحقيقيّ عبر التكنولوجيا الذكية والتخطيط الحضريّ المستنير وتشجيع الممارسات المستدامة وتصميم السياسات وسنّ القوانين وتعزيز الشراكات مع القطاع الخاص وغيرها. وذلك لبناء مستقبلٍ أكثر استدامة.

 · · 5 يونيو 2024
magnifiercrossmenuchevron-downarrow-right