على الرغم من كونها عاصمة لأحد أكبر اقتصادات العالم وتمتعها بتاريخ عريق، تواجه مكسيكو سيتي تحديات صعبة من ضمنها الفقر والاكتظاظ السكاني. وفي ظل البيروقراطية وعدم المساواة الاجتماعية السائدة تبدو التحديات كبيرة والحلول مستعصية. لكن بوادر التغيير، وإن كانت بطيئة، بدأت بالظهور بفضل جهود الوكالة الرقمية للابتكار العام التي تشكل تجربتُها حالةً نموذجية تسلط الضوء على أهمية الدعم السياسي والمالي، وتعاون مختلف الدوائر الحكومية، لتوفير خدمات حكومية رقمية فعالة تساهم في تحسين نوعية حياة سكان المدينة.
تأسست الوكالة الرقمية للابتكار العام قبل بضعة سنوات في المكسيك بهدف تمكين السكان، خاصة الفئات المهمشة التي تشكل الشريحة الكبرى من مجتمع المدينة، من النفاذ إلى الخدمات والبرامج الحكومية التي يحتاجونها من خلال بوابة دخول رقمية تبسط لهم الإجراءات وتسرّع حصولهم على الخدمات. كانت مصداقية مثل هذا الهدف محط شك أفراد المجتمع الذين كانت ثقتهم محدودة نظراً للبيروقراطية الخانقة وفترة الانتظار الطويلة منذ تقديم الطلب على الخدمات إلى الحصول عليها، لا سيما أن طالبي الخدمات يضطرون إلى التردد على أكثر من دائرة حكومية لإكمال طلباتهم، وغالباً ما يسبب لهم هذا خسارة مادية لغيابهم عن أعمالهم. فكان كسب ثقة المواطن تحدِّياً آخر زاد من أهمية أن تتمحور الخدمات حول المستهلك.
في البداية، استعانت الوكالة الرقمية للابتكار العام بفريق من الاختصاصيين من الدائرة القانونية لمجلس المدينة، لتطوير الإطار القانوني لعمل الوكالة تجاه الدوائر الحكومية الأخرى والمستخدمين، وتم منحها صلاحيات كاملة لأداء أعمالها من خلال سن قانون العمليات الرقمية والابتكار. كانت هذه خطوة مهمة لتيسير مسألة تعاون مختلف الجهات المعنية معها، وحماية حقوقها وحقوق المستخدم، خاصة أن الوكالة كانت تطمح بالنهاية إلى تطوير حلول متكاملة لتبسيط وتسريع خدمات الحكومة الإلكترونية. وكانت إحدى المهام الرئيسية التي تولاها الفريق الفني للوكالة تتمثل بالعمل مع الجهات الحكومية لضمان توافق برمجياتها مع منصة الوكالة. كما بادر الفريق إلى ربط الجهات المزودة للخدمات مع بعضها البعض عبر المنصة لتسريع المعاملات التي تتطلب موافقة أكثر من جهة.
عمل فريق الوكالة أولاً مع مجموعة من الدوائر التي تقدم خدماتٍ تعدُّ من الأولويات أو الأكثر طلباً من الجمهور، مثل الرعاية الصحية والتعليم ووثائق الأحوال الشخصية ورخصة القيادة، لربط تلك الخدمات مع ما تم تسميته "بوابة المدينة"، وهي المنصة الإلكترونية التي طورتها الوكالة بهدف تسجيل دخول المستخدم مع كلمة السر مرة واحدة للانتقال إلى مختلف روابط الخدمات لتقديم الطلب وسداد رسومه عبر الإنترنت من خلال محفظة رقمية آمنة.
لم تلق "بوابة المدينة" في البداية استحسان الجمهور، وتبين أن المستخدمين ظنوا أن البوابة كانت خدمة أو منتجاً بحد ذاته، وليست وسيلة للنفاذ إلى مختلف الخدمات. فقررت الوكالة حينها أن تعيد تصميم عملية تقديم الخدمات وواجهة استخدام المنصة مع الدوائر المعنية لتحسين تجربة المستخدم من خلال تكامل أكثر سلاسة وسهولة وديناميكية لمكونات المنصة. وبالمحصلة، وفرت "بوابة المدينة" لغاية اليوم بدائل رقمية لنحو %75 من مجمل التعاملات التي توفرها الحكومة لسكانها.
يجدر بالذكر أن الفريق الفني للوكالة كان خلال مرحلة تطوير قد راعى ضرورة أن تكون المنصة قابلة للتشغيل على أبسط أجهزة الهاتف الذكية لتتمكن الفئات محدودة الدخل قادرة على النفاذ إليها. وتداركاً لعقبة أخرى تتمثل بعدم قدرة تلك الفئات على تحمل تكلفة الاشتراك بخدمات الإنترنت، وظفت الوكالة إمكاناتها لبناء واحدة من أوسع شبكات اتصال "واي فاي" عامة مجانية تم نشرها في مختلف أنحاء المدينة، خاصة في الأحياء الفقيرة لضمان نفاذ جميع السكان إلى منصتها.
اليوم، بعد مرور أقل من خمس سنوات منذ إطلاقها، بلغ عدد مستخدمي "بوابة المدينة" أكثر من ستة ملايين شخص، أي ما يعادل %87 من عدد سكان مدينة مكسيكو البالغين. وأطلقت البوابة خلال تلك الفترة ما يزيد عن 330 خدمة من أهم الخدمات الحكومية، كما عملت على تبسيط وتسريع الخدمات بشكل كبير بعد أن قلصت عدد الإجراءات المتبعة في تقديم الخدمات من 2100 إجراء إلى 500 إجراء فقط. شملت العوامل التي ساهمت في تحقيق هذا الأداء مشاركة البيانات الخاصة بكل مواطن بين جميع الدوائر ذات الصلة، وتعزيز التعاون بينها.
إحدى أسباب نجاح الوكالة الرقمية للابتكار العام التي ميزتها عن معظم المؤسسات الحكومية هو اتباعها نهجَ الأعمال التجارية في ممارساتها، حرصاً على فعالية الأداء على مستوى التنظيم والإدارة والميزانية. فقد طبّقت على سبيل المثال مفهوم إدارة المشاريع لضبط عملية تقدم مبادراتها ومعالجة الإشكالات، فقامت بتعريف المشروع وتحديد مراحله وإطاره الزمني، وتوزيع المهام والمساءلة، وتحديد مسؤولية جميع الجهات ذات الصلة. أما على صعيد الميزانية فقد عينت فريقاً من الاختصاصيين الفنيين يتمتع بكفاءات عالية واستقلالية في تنفيذ جدول أعمال الوكالة، وقادراً على أن يحل محل غالبية الموردين الخارجيين الذين تعتمد غالبية المؤسسات الحكومية على خدماتهم، ما أسهم في خفض النفقات بشكل كبير. هذا التوجه رفع سمعة الوكالة كسمعة قائمة على النتائج. ورغم أن تكلفة أعمال الوكالة كانت عالية نسبياً، إلّا أنها أدت إلى وفورات كبيرة على الجهات الحكومية التي طورت خدماتها الرقمية.
بالنهاية، يمكن القول بأن الحلول التي وضعتها الوكالة الرقمية للابتكار العام لم تتعلق بالتكنولوجيا والتحول الرقمي فحسب، بل ساهمت كثيراً في الحد من البيروقراطية في عاصمة المكسيك، فضلاً عن تقليص الفجوة الرقمية، وتمكين المواطن من النفاذ إلى المعلومات، والمشاركة في شؤون مدينته، وزيادة ثقته بالحكومة، وتخفيف بعض أعباء معيشة الفئات محدودة الدخل. بوابة المدينة" ليست النهاية، بل البداية في مسار التحول الرقمي للمدينة لتحقيق مزيد من المشاركة والشمولية والعدالة الاجتماعية.
المراجع:
- https://datasmart.hks.harvard.edu/sites/hwpi.harvard.edu/files/datasmart/files/mexico_city_digital_agency_-_datasmartharvard.pdf?m=1698321906
- https://bloombergcities.jhu.edu/news/what-we-can-learn-mexico-city-about-digital-transformation
- https://medium.com/@mitgovlab_54449/unlocking-innovation-with-mexico-city-key-808c90324e79