تقدِّم إستونيا نموذجاً فريداً في ساحة التكنولوجيا العالمية، إذ استفادت من نقاط القوة الوطنية، وعزّزت الشراكات بين القطاعَين الحكوميّ والخاص، وبَنَت المعرفة التكنولوجية لدى مواطنيها، ودعمت التحوّل الرقميّ السريع ليكون محفِّزاً رئيسياً لنموّ ريادة الأعمال، واحتضنت الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا العميقة.
يبدو أنّ رحلة الابتكار قد دخلت فصلاً جديداً يحمل اسم التكنولوجيا العميقة "Deep Tech"، التي يتوقع الخبراء أن تحدث ثورة ومفاجآتٍ تفرض على العالم إعادة ترتيب أولوياته. تعتمد هذه التكنولوجيا بشكل كبير على البحث العلميِّ والهندسيّ، وتسعى لإيجاد حلولٍ للمشكلات قبل ظهورها عبر طرائق ثوريةٍ كالروبوتات وحلول تخزين الطاقة، ومن شأنها إحداثُ أثرِ تحويليٍّ على المجتمع والاقتصاد.
وكأيّ نقلةٍ من هذا النوع، تنتظر التكنولوجيا العميقة تحديات كثيرة وتحتاج متطلَّباتٍ خاصةً لتحقِّقَ ما تَعِدُ به، ففي نهاية المطاف، لا يمكن لفكرةٍ جديدةٍ أن تخلو من المجازفة.
أغرى هذا التحدّي حكومة إستونيا التي قرّرت أن تكون مركزاً دولياً للشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا العميقة عبر جهود وزارة الشؤون الاقتصادية والاتصالات ومبادرة الشركات الناشئة.
قبل قرابة ربع قرن، أطلقت الحكومة مبادرة إستونيا الإلكترونية، فأرست نظاماً يقدّم معظم الخدمات العامة رقمياً، من شبكات الهاتف المحمول وتبادل البيانات إلى منح الهوية الرقمية التي كانت إستونيا سبّاقةً في اعتمادها وسيلةً للتعرُّف على الأفراد في العالم الرقميّ، ولإدارة كثيرٍ من أنشطتهم المصرفية، ولتمكين هذا البُعد الرقميّ من محاكاة العالم الحقيقيّ.
وإلى جانب الهوية الرقمية التي كانت الخطوة الأبرز، أرست إستونيا بنيةً تحتيةً خاصةً بإدارة البيانات، بحيث لا تجمعُها على منصةٍ رقميةٍ واحدةٍ فيسهل اختراقُها، بل تكون لا مركزيةً لكنّها مرتبطةٌ بين الكيانات الحكومية، فيصبح الوصول إليها أسهلَ وأقلّ كلفةً وأكثر أماناً، وهذا خيارٌ مثاليٌّ لدولةٍ كإستونيا، بتعدادِها السكانيّ الذي لا يتعدّى 1.3 مليون نسمة.
وفي ضوء التجربة المحلية، تطلّعت الحكومة إلى الريادة العالمية، فوضعت خطةً تهدف لمضاعفة عدد مشاريع التكنولوجيا العميقة بحلول العام 2025، ثم الوصول إلى خمسة أضعاف العدد بعدها بـ 5 سنوات. وتركّز الخطة على مؤسّسي الشركات وطواقمها وسوق رأس المال، إذ يُراد لها أن تكون أداةً ترشدهم، وترسي لهم بيئاتٍ تنظيميةً شفافة، بأنظمةٍ ضريبيةٍ تراعي طبيعة المشاريع الناشئة، وبأقلّ قدرٍ من الإجراءات البيروقراطية، بحيث يمكن تسجيل شركةٍ خلال ساعات.
كما تم وضع آليةٍ لمتابعة سير العمل على الخطة ومدى تحقيقها أهدافَها السنوية، على أن تُعقد اجتماعاتٌ دوريةٌ يلتقي فيها الشركاء الأساسيون للمبادرة لتقييم الوضع ورسم الخطوات المستقبلية.
جاء إطلاق الحكومة برنامجَ الإقامة الإلكترونية الأولَ في العالم، كأحد الخطوات المهمة التي اتخذتها لجذب أصحاب المشاريع من الأجانب بمنحهم امتيازاتٍ تكون تقليدياً مخصّصةً للمواطنين، حيث يتيح لهم تأسيسَ شركاتهم وإدارتَها افتراضياً وتلقّي الخدمات المصرفية أو دفع الضرائب، وحتى الوصول إلى الأسواق الأوروبية. كلّ هذا عبر بطاقةٍ ذكيةٍ يمكن استخدامها لتوقيع المستندات.
تركِّز إستونيا على تعليم التكنولوجيا لمواطنيها عبر إدماجها في المناهج الدراسية، فوضعت الحواسيب في كلِّ فصلٍ دراسيّ، ووصلت كلَّ مدارسها بالإنترنت قبل العام 2000، ولم تنسَ الراشدين، فدرّبت 10% منهم مجاناً على استخدام الكمبيوتر. وبعد أن أصبح أكثر من 90% من مواطنيها يملكون هذه القدرة، ظهرت استراتيجية التعلّم مدى الحياة، التي تتضمّن برنامجاً للتحول الرقميّ يرمي إلى تطوير مهارات المعلّمين والطلاب.
لكنّ ثمة تحدياتٍ لا بدّ من مقاربتها، أولُها صعوبةُ العثور على المواهب الفريدة المحلية والعالمية. وكلمة السرّ هنا هي مدُّ قنوات التواصل الدائمة مع المؤسسات الأكاديمية، لمساعدتها في بناء المعارف والمهارات من جهة، والاستعانة بها في رفد السوق بخيرة خرّيجيها من جهةٍ أخرى.
ويبدو هذا ضرورياً لمواجهة التحدي الثاني المتمثّل بتهديدات الأمن السيبرانيّ، لا سيما بعد الهجوم الذي تعرّضت له البنية التحتية الرقمية في العام 2007، والذي عطّل خدماتٍ كثيرة، واستجابت له إستونيا بأن جعلت الأمن السيبرانيّ أولويةً وطنية، فطوّرت أدوات الحماية وأطلقت مبادراتٍ عديدة. كما أنشأت هيئة نظام المعلومات "الفريق الأحمر"، ومهمته محاولة اختراق النظام لرصد أيّ ثغراتٍ أمنية. وهذه الفكرة قابلةٌ للتوسّع بالتزامن مع جهود التوعية بالتهديدات السيبرانية وإطلاق منصةٍ لتعليم الموظّفين الحكوميين كيفية حفظ الأمن السيبرانيّ.
إلى جانب ذلك، حشدت الحكومة متطوِّعين من خبراء التكنولوجيا ليكونوا متأهِّبين للاستجابة للحوادث السيبرانية الكبرى إن وقعت.
تتطلّع إستونيا إلى احتضان أكثر من 500 شركة ناشئة بحلول العام 2030، على أن تصل 75 منها مرحلةَ التوسُّع وتوظِّفَ أكثر من 50 متخصِّصٍ في إستونيا.
تتيح البنية التحتية التي أرستها الحكومة مشاركةً آمنةً وفوريةً لأيّ معلومةٍ بين وكالتين حكوميتين، ما يخفّف عبء البيروقراطية ويضمن الوصول السريع إلى الخدمات الرئيسية، ويفتح الباب أمام أصحاب المشاريع الطامحين إلى موطئ قدمٍ في السوق الأوروبية.
ساهمت إجراءات حكومة إستونيا في تقديمها لمكانةٍ بارزةٍ على ساحة التكنولوجيا العالمية، فاستضافت خلال العام 2022 عدداً كبيراً من هذه الشركات، وشهدت قصص نجاحٍ مبهرةً كتلك التي تقدِّمها شركة "سكايب"، والتي رسّخت الانطباع العالميّ عن إستونيا بكونها أرضاً خصبةً لرعاية أصحاب الابتكارات من حول العالم.
المراجع:
- https://www.oecd-ilibrary.org/sites/510a82b5-en/index.html?itemId=/content/component/510a82b5-en
- https://e-estonia.com/in-2022-estonia-had-the-highest-number-of-cyber-attacks/
- https://investinestonia.com/estonia-lays-down-an-action-plan-to-reach-500-deeptech-startups-by-2030/
- https://investinestonia.com/estonian-startup-sector-finds-its-new-triumph-in-deeptech/
- https://estonianworld.com/knowledge/how-did-estonia-become-a-role-model-in-digital-education/
- https://www.gemconsortium.org/news/the-entrepreneurial-ecosystem-in-estonia%3A-strengths%2C-weaknesses-and-the-role-of-a-new-gem-national-team
- https://startupestonia.ee/about