لإيقاف الأثر المتبادل بين تغيّر المناخ وهدر الغذاء، أطلقت منطقة جيلف ويلينغتون الكندية مبادرتَين لترسيخ الدائرية في المنظومة ككل، عبر مبادراتٍ متنوِّعة كتحويل نفايات الغذاء إلى موارد قيّمةٍ وإعادة تدويرها وحظر دفن النفايات العضوية وتعزيز التعاون لإدارتها.
ثمة مفهومٌ علميّ يُعرف بالعلاقة التبادليّة، وهو يعني ظاهرتَين تؤثِّر إحداهما في الأخرى، فتجعلها أفضل أو أسوأ، لتتأثّر بهذا التغيير، في سلسلةٍ معقَّدةٍ لا تنتهي إلّا بإيقاف إحداهما.
ينطبق هذا على العلاقة بين تغيُّر المناخ وهدر الطعام. فهدر مادةٍ غذائيةٍ يعني هدرَ موارد إنتاجِها، ومن ثم تركَها لتتحلَّل لا هوائياً مُطلِقةً غاز الميثان الذي يحتجز الحرارة في الغلاف الجويّ فيزيد الاحترار ويسرِّع تغيُّر المناخ، الذي يؤثّر بدوره في المحاصيل. واقعٌ تدعمه تقديراتٌ بأنّ ما لا يقلّ عن 21% من انبعاثات الغازات الدفيئة تأتي من النظام الغذائيّ، بعبارةٍ أخرى، ما يواجهه العالم اليوم كنتيجة لهدر الطعام ليس مجرد مأزقٍ أخلاقيٍّ خصوصاً أمام انتشار الجوع في بعض البلدان، بل يمتد ليشمل قضية حماية الكوكب بكبرها.
في كندا مثلاً، شهد العام 2022 ارتفاعاً بلغ 11% في تكلفة مشتريات البقالة، ويُرتَقب أن يحمل العام 2023 زيادةً أخرى تقارب 7%، وذلك وفقاً لتقرير أسعار الغذاء. كما يبدو أنّ الكنديين يهدرون 60% من الأغذية سنوياً، وأنّ 32% منها يمكن تجنُّبها كالفاكهة الفاسدة والخبز القديم، أما الباقي، فلا يمكن تجنُّبه، مثل قشور البيض وبقايا الخضروات. حسابياً، يُترجم هذا إلى خسارةٍ ماليةٍ تبلغ 49 مليار دولار عبر سلسلة القيمة.
وماذا بعد؟ الواضح أنّ ثمة خللاً كبيراً في هذا المشهد، وأنّه بعيدٌ كلَّ البعد عن الاستدامة التي تتطلّع إليها الحكومة الكندية في مختلف جوانب الحياة، والتي ألهمت عدة تجارب رائدة.
كانت أولى هذه التجارب جنوبيّ أونتاريو، في منطقة جيلف ويلينغتون التي تضمّ 223 ألف نسمة، قرابة 60% منهم يعيشون في المناطق الحضرية. ومع ذلك، فطابعها الغالب ريفيّ، وسكّانها مرتبطون بالزراعة وينتجون الذرة والقمح وفول الصويا ولحوم البقر والدواجن.
ولأنّهم مهتمّون ببيئتهم وبالحدّ من أوجه عدم المساواة، طوَّر مكتب المدن الذكية نظاماً غذائياً دائرياً إقليمياً يركّز على مبادرتَين رئيستَين. سُميت الأولى "مستقبلنا الغذائيّ"، وموّلتها هيئة البنى التحتية، وتبنَّت نموذج التسلسل الهرمي لاستعادة الغذاء الذي صمّمته وكالة حماية البيئة الأمريكية. وتهدف المبادرة لزيادةٍ بمقدار 50% في الوصول إلى أطعمةٍ عالية القيمة الغذائية، وتوفيرها بتكلفة ميسورة، إلى جانب دعم الشركات التي تنتج أغذيةً دائريةً وتعيد تعريف النفايات كمورد، إلى جانب إطلاق 50 مشروعٍ جديدٍ ورفع المنفعة الاقتصادية الدائرية بنسبة 50% عبر تحرير قيمة النفايات.
بدأت المبادرة بتحليل الواقع الغذائيّ وتدفّق المواد عبر 3 مراحل، أوّلُها جمع البيانات ودراستها، ثم العمل مع أصحاب المصلحة لوضع خارطة الطريق وتحديد الخطوات الفضلى للوصول إلى المرحلة الثالثة وتجريب 3 أفكار جديدة.
على سبيل المثال، وجد فريق المبادرة أنّ سبب زيادة كميات نفايات الأغذية العضوية هو عدم كفاية التخزين والتعبئة في المراحل الأولى من النظام الغذائيّ. كما أنّ المؤسسات الصناعية والتجارية تهدر 75% مما تشتري من الطعام.
بناءً على هذه المعلومات وغيرها، صمّم المكتب تدخُّلات المبادرة الأولى وأنشطة المبادرة الثانية التي حملت اسم "منصة إطلاق ابتكارات الفرص الدائرية"، واعتمدت على تمويل الوكالة الفيدرالية للتنمية الاقتصادية لجنوب أونتاريو، لتكون حاضنةً ومسوِّقاً وداعماً مالياً للأعمال التي تتبنّى وتطوّر نماذج دائريةً.
من ضمن الأنشطة، أُطلِق برنامجان لالتقاط النفايات الناتجة عن معالجة الأغذية وإعادة تدويرها، مثل تحويل مخلفات أحد المصانع إلى منتجات مصنع آخر، كمشتقات التوفو التي تدخل في صناعة المعكرونة أو بقايا البصل التي تتحوّل إلى مُنَكِّهٍ مركّز.
ركّزت كلّ التدخّلات على إدماج الشركاء من السلطات المحلية والجهات الحكومية والخبراء والمنظمات غير الربحية والقطاع الخاص. وقد عمل الفريق لقياس تأثير تدخّلاته عبر رصد القيمة المُستردّة من الأغذية الصالحة للأكل، وإجماليّ النفايات العضوية المحوَّلة، والتقليل من البصمة البيئية، والقيمة الاقتصادية المُضافة.
وقد أدّى صانعو السياسات الكنديّون دوراً مهماً فيما يجري، فمنذ حظر دفن النفايات العضوية في التسعينات، التزمت أونتاريو بتنظيم النفايات وإيجاد استخدامات بديلةٍ لها كالتسميد، وتطوير مواد جديدة كالبلاستيك الحيويّ المصنوع من موارد متجددة.
لتطبيق هذه الخطوات، لا بدّ من بنيةٍ تحتيةٍ داعمة، إذ تحتاج كلُّ شركةٍ للتعاقد مع ناقلات النفايات بصورةٍ مستقلة، وهذا يجعل إدارة النفايات العضوية مرهقةً ومكلفة. لاجتياز هذا التحدّي، أطلق مجلس الابتكار الدائريّ نظاماً تعاونياً إقليمياً لجمع النفايات العضوية، تُقتسم فيه التكلفة بحيث لا تشكّل عبئاً على أيّ جهة.
وهناك تحدٍّ ثانٍ، وهو الافتقار لطريقةٍ موثوقةٍ لتبادل بيانات النفايات الغذائية، فمن الأسهل إعادة تدوير النفايات قرب أماكن تشكُّلها. وهذه البيانات تملكها الشركات والحكومة الفيدرالية فقط، ولا بدّ من منصة بياناتٍ موحّدةٍ لمشاركة المعلومات.
خلال العام 2021، شاركت 45 مؤسّسةً في البرنامج التجريبيّ، وحوّلت أكثر من 318 طناً من النفايات العضوية، فوفّرت 413 طناً من الانبعاثات الكربونية، كما استطاعت الشركات حفظ 38 ألف وجبة خلال العام 2022.
إلى جانب ضبط الهدر وتحسين الأمن الغذائيّ، تهدف تجربة جيلف ويلينغتون إلى توليد قيمةٍ اجتماعيةٍ وتعزيز نموّ الأعمال التجارية وترسيخ مفهومٍ دائريٍّ في كلّ القطاعات الاقتصادية يقول إنّ النفايات ببساطةٍ مادةٌ لم تتمّ إعادةُ تقييمها بعد.
من شأن هذه السلوكيات تقليل البصمة الكربونية المنظومة الغذائية ورسم مستقبلٍ أكثر استدامة ومرونةً في وجه تغيُّر المناخ.
المراجع:
- https://guelph.ca/wp-content/uploads/SmartCities_Booklet.pdf
- https://policyoptions.irpp.org/magazines/february-2023/food-waste-circular-system/
- https://www.fsds-sfdd.ca/en/goals/responsible-consumption-and-production
- https://greenmunicipalfund.ca/case-studies/case-study-how-guelph-wellington-building-sustainable-food-future
- https://www.dal.ca/sites/agri-food.html
- https://foodfuture.ca/
- https://coil.eco/
- https://foodfuture.ca/foodflowstudy