في العالم المعاصر الحائر حول جدليّة التكنولوجيا والناس، انطلقت منصة مانثان الهندية لتكون نظاماً بيئياً رقمياً يجمع الجهات المعنية من خلفيّاتٍ متنوّعة، لتوسيع نطاق الحلول المؤثرة من خلال مواءمة الطلب مع التقنيات المتطورة.
غالبًا ما تُنظر الابتكارات التكنولوجية بعين الريبة، إذ يخشى البعض من آثارها السلبية على الأفراد والمجتمعات، إلا أنها في الوقت نفسه تحمل في طياتها إمكانيات هائلة لحل المشكلات المعقدة التي تواجهنا.
في الهند، تعدَّدت أبعادُ هذا السؤالِ ومستوياتُه، فبتعدادها السكانيّ المرتفع، تتنوّع الاحتياجات والتطلُّعات والبُنى الاجتماعية والاقتصادية، ابتداءً من فجوات الرعاية الصحية إلى المخاوف البيئية. وفي عالمٍ قد يبدو موازياً، ازداد التقدّم التكنولوجيّ في هذا البلد، وبَدَت التكنولوجيات الناشئة كالذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية والتكنولوجيا الحيوية واعدة. ولكن، كيف يمكن تسخير هذه الابتكارات لصالح المجتمع؟ وكيف يمكنها أن تتجاوز المختبرات وقاعات الاجتماعات لتلمس حياة الناس؟
أدركت الهند أنّها تتمتّع بكلّ العناصر اللازمة لرسم مشهدٍ تكنولوجيٍّ وابتكاريٍّ رائد، لكنّ إجابة السؤال تكمن في التعاون لجمع هذه العناصر. لهذا، قادت الهيئة الحكومية المعروفة بـ "المستشار العلميّ الرئيسيّ" مبادرةً انضمّ إليها القطاع الخاص والمنظّمات غير الربحيّة والجمعيات الخيريّة والأطراف الفاعلة في القطاع التكنولوجيّ لإنشاء منصة "مانثان" في العام 2022.
تزامن إطلاق منصّة مانثان مع الذكرى الخامسة والسبعين لاستقلال الهند، وهي عبارةٌ عن سوقٍ رقميةٍ تعزّز الشراكات والتفاعلات، حيث يعرض المبتكِرون حلولَهم أمام روّاد القطاعات الساعين وراء المشاريع المؤثرة أو الذين يواجهون تحدّياتٍ في مجالاتهم ويبحثون عن مقترحاتٍ لتفاعلها، وتتفاعل الجهات الخيريّة النشطة مع كبار الأوساط الأكاديمية، لينشأ نظامٌ بيئيٌّ ديناميكيٌّ تلتقي فيه الأفكار والرؤى وتنتقل من قطاعٍ لآخر متكيِّفةً مع الاحتياجات.
وبما أنَّ تطلُّعاتِ الهند وأولوياتِها تتوافق مع أهداف التنمية المستدامة التي اعتمدتها الأمم المتحدة، فقد اتُّخِذَت هذه الأهداف الـ 17 مظلةً تنتظم كلُّ العمليات ضمنها. وقد ركّزت مانثان على أربع قطاعاتٍ رئيسيّة وهي الفرص الحكومية والشراكات الدولية والابتكارات في مجال التعليم المدرسيّ والمرأة في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، مع إيلاء اهتمامٍ للقطاعات الحيوية مثل الدفاع والزراعة والرعاية الصحية التي حظيت بأهمية خاصة، تماشياً مع استراتيجية "صحةٌ واحدة"، فركّزت مانثان على تشجيع الابتكارات في مراقبة الأمراض والتطعيم والتدريب والبحث وتحليل البيانات والتكنولوجيا الحيوية.
لم يكن أيُّ مما ذُكِرَ مجالاتٍ منفصلة، بل مثّلت جميعُها مساراتٍ مترابطةً تسير جنباً إلى جنبٍ صوب التحوّل الاجتماعيّ الملموس. وقد اتّسعت مانثان لتشمل أكثر من 21 قطاعاً بما فيها التكنولوجيا البحرية والهيدروجين الأخضر والتنقل المستقبلي وتصميم المنتجات والإلكترونيات وأشباه الموصلات والحوسبة الكمومية والذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية وغيرها، مع الفرص والتقنيات الناشئة المتاحة في كلٍّ منها، إلى جانب رموزٍ تحدّد هدفَ التنمية المستدامة الذي تندرجُ هذه الفرص ضمنَه.
كما مَضَت مانثان أبعدَ من حدود الهند، فأسّست الشركات الناشئة الهندية شراكاتٍ في 14 دولةً مختلفة. وحرص المطوِّرون على أن تكون مانثان منصةّ "ديمقراطية" من حيث الوصول، فجعلوا الاشتراك متاحاً لأيّ شخصٍ أو مؤسسة على نحوٍ مُبسَّطٍ ومجانيّ، حيث يمكن لكلِّ مشتركٍ أن يختار نوع حسابه، فقد يكون مشاركاً يمثِّل الطلب على الابتكارات أو صاحبَ فكرةٍ أو مشرِفاً أو خبيراً في مجالٍ ما.
في المرحلة القادمة، يخطّط فريق مانثان لاستخدام محرّكِ ذكاءٍ اصطناعيّ لتوسيع نطاق الوصول إلى الخبراء في الهند وخارجَها، كما يتطلّع لاستضافة منصةٍ لتوظيف الطلّاب في مرحلة الدكتوراه، خاصةً الموجودين في مراكز أبحاث الصناعة، إذ ستخضع بيانات المنصة للتحليل لقياس الطلب على الباحثين في مختلف المجالات، ومن شأن هذا أن يوجِّه الطلاب لاختيار مواضيع بحثيةٍ واعِدة ومرغوبةٍ في سوق العمل.
ككلّ الأفكار الجديدة، كان على منصة مانثان اجتياز تحدّي بناء الثقة في المراحل الأولى، ولفعل ذلك، استفادت من إعلانات المطارات والمؤتمرات وعقدت الشراكات مع المنصّات والقنوات التلفزيونية، وعرضت قصص النجاح عبرَ موقعها الإلكتروني.
هنا، برزَ تحدٍّ ثانٍ، وهو للمفارقة، تحدّي قياس النجاح، فمؤشّرات الأداء الرئيسية قد تطوّرت. فبالنسبة لبعض المشاريع، كان النجاح يعني توقيعَ مذكّرات التفاهم أو التمويل، أما نجاح الأبحاث مثلاً، فهو يعني ترجمة الأفكار إلى تكنولوجياتٍ قابلة للاستخدام، بالتالي كان لا بدّ من تنويع أدوات القياس والتأني في رصد النتائج، لا سيما أنّ التأثير الاجتماعيّ الهادف لا يحدث بين ليلةٍ وضحاها.
بالإضافة إلى ذلك، فالتعاون الدوليّ يمثّل تحدياً معقّداً بقدر ما هو ميزةٌ قيِّمة، وقد استدعى مهاراتٍ وعملاً جاداً لتحقيق التوازن بين التمويل والخبرة والنجاحات العابرة للحدود، التي شملت مشاريع بناء القدرات والبنى التحتية والمِنَحَ التمكينيّة والتطويرية.
بعد أكثر من 359 تعاونٍ ناجحٍ و286 مشروع، تجمع المنصّة اليومَ أكثر من 62،000 مستخدم و19،907 منظمة غير حكومية و286 منظمة أقرّت بثمار المشروع، بالإضافة إلى 1،625 مؤسّسةٍ بحثيةٍ و52 فعاليةً ومعرضاً احتضنتها مانثان. وبفضل التعاون مع الحكومة، ساهمت مانثان في تأمين أكثر من 97 مليون دولار لتمويل مشاريع التقنيات الناشئة.
تساهم مانثان في ردم الفجوة بين مَن يفكّرون ويبتكرون ومَن يحتاجون ابتكاراتهم، وتجمع كليهما مع أولئك الراغبين بإحداث فرقٍ في المجتمع.
المراجع: