متكِّئة على سجلٍّ حافلٍ من التطور التكنولوجيّ، تبنّت إستونيا استراتيجيةً لترقية منظومة النقل باستخدام البنية التحتية المتقدّمة وممرات المشاة والأرصفة الذكية والأنظمة المتكاملة التي ستجعل حركة المرور أكثر سلاسةً وأماناً.
استأنس البشر الخيول قبل 9000 عام، واخترعوا العجلة قبل 3500 عاماً، ثم احتاجت هاتان النقلتان 1500 عامٍ لتلتقيا، مشكِّلتَين أولَ عربةٍ استخدمها الإنسان كوسيلة نقل. قد تبدو هذه المفارقة طريفةً بالنظر إلى منظومة النقل الحالية والتي باتت على أعتاب أكبر نقلةٍ نوعيةٍ على الإطلاق.
لكنّ السيارات الحديثة ذاتية القيادة والطرقَ المعبّدة بأحدث المستلزمات ووسائل المراقبة المختلفة، لم تفلح في تحقيق نِسَب الأمان المأمولة، بل إنّ ممرات المشاة التي يُفترض أن تكون مساحاتهم الآمنة هي الأكثر خطورةً للسير، فهي ببساطةٍ عبارةٌ عن بضعة أمتار يلتقي فيها المشاة بالسيارات. وبينما تسلِّم بلدان عديدةٌ بهذه الحقيقة، لا يمكن لدولةٍ كإستونيا أن تقبل بها كأمر واقع، فمشهدٌ كهذا يتعارض مع الهوية التي أمضت سنواتٍ في بنائها، وهي هوية الأمة الذكية ذات المجتمع الرقميّ الأول في العالم.
للاستفادة مما لديها من معرفةٍ وخبراتٍ تكنولوجية، وبنية تحتيةٍ رقمية، وبيئةٍ مرحِّبةٍ بالابتكارات الجديدة، بدأت حكومة إستونيا مشروع مدّ أذكى طريقٍ في البلاد، والذي سيكون من نصيب مدينة بولفا الجنوبية.
على مسافة 2.7 كيلومتر، سيعبر الطريق مناطق مختلفة من المدينة، وسيتوزّع عليه 14 ممراً ذكياً للمشاة، في كلٍّ منها جهازٍ متعدّد الوظائف، هو الذي سيضيف صفة “الذكاء” للعملية المرورية، عبر إبلاغ مستخدمي الطرق بالمخاطر المرورية الموجودة بطريقتَين. الأولى هي المصابيح الثنائية المركَّبة على الأعمدة، التي تومض لتنبيه السائقين باقتراب المشاة، أما الثانية فهي أنظمةٌ صوتيةٌ تحذّر المشاة من وجود أيّ خطر.
ولتحديد هذه الأخطار، ثُبِّتَت كاميرات خاصة على جابني الطريق، لا تلتقط الصور فحسب، بل وتستطيع رصد المركبات والمشاة والتمييزَ بينهما، كما يمكنها قراءة لوحات أرقام السيارات، وهي متصلةٌ بحواسيب تقيس متوسط سرعة السيارات وتحلّل حركة المشاة وتعالج البيانات آنياً.
وبينما تتولى الكاميرات المراقبة من الأعلى، يكمّلها شريكٌ على مستوى الأرض، وهي الحجارة الذكية التي رُصِف بها الطريق. ولعلّ أبسط عبارةٍ تصف هذه الحجارة هي أنها ليست حجارةً فعلاً، بل خليط بلاستيكيّ يتفاعل مع الحرارة أُلحِقت به عدة أجهزة ذكية كالمصابيح القابلة للتحكّم عن بعد وأجهزة الاستشعار والمعالِجات الدقيقة ومرسِلات البيانات ومستقبلِاتِها، وتستطيع هذه الأجهزة توليد الطاقة الكهروضوئية من أشعة الشمس إذا ما تعرّضت للقدر الكافي منها.
وهكذا، تكوّن هذه الأجهزة تصوُّراً دقيقاً عن حالة الطريق وحجم المخاطر، وبناءً عليه، تضيء المصابيح بألوان ودرجات سطوعٍ مختلفة تمثِّل الرسائل المُراد إيصالُها لمستخدمي الطريق.
بالمثل، تشهد العاصمة تالين، مشروعاً يستهدف تحويل الطريق الدائريّ الشهير إلى طريقٍ ذكيّ بميزانيةٍ تفوق 5 ملايين يورو، وسيبدأ هذا المشروع بالكيلومترات الـ 30 الأولى من الطريق، والتي ستُزوَّد بأنظمةٍ لمراقبة الطقس وحركة المرور، وستتضمّن موقفاً ذكياً وآمناً يستطيع استيعاب 100 سيارة، وتنتشر فيه أجهزة الاستشعار التي توجّه السائقين لإيجاد الموقف المناسب بأسرع وقتٍ ممكن، والتي تتكامل مع الشاخصات المروريّة التي ترشدهم إلى حدود السرعة وتحذِّرهم من وجود المخاطر أو أيّ عوائق أخرى مثل أعمال الحفريات.
كما سيتيح الطريق الاتصال بين المركبات التي تعبره من جهة، وسيربطها بالبنية التحتية الذكية من جهةٍ أخرى، فهذا العنصر بالغ الأهمية في نهج إدارة النقل بالعاصمة، وهو ما دفعها لإنشاء نموذجٍ رقميٍّ لتحليل البيانات التي تَرِدُ على مدار الساعة من عشرات آلاف الطُّرق والعُقَد. وبناءً عليها، يميّز النموذج بين 12 نوعاً من مستخدمي الطرق كالأطفال وركاب السيارات والمشاة والمسنّين وغيرهم، ليتنبّأ باحتياجاتهم وبأيّ تغيُّراتٍ تطرأ على حركة المرور ويشرح أسبابها في حال وقوعها، ويقدّم إرشاداتٍ لتفادي الطرق المغلقة أو التي تخضع للصيانة، وذلك عبر الهواتف المحمولة أو الحواسيب الشخصية.
تتضمّن المنظومة أيضاً تقنية التحديد التلقائيّ لموقع المركبة واستهلاكها للوقود وسلوك سائقها، وآليةً لمشاركة المعلومات الحية مع الركاب لتزويدهم بمواعيد دقيقة، بالإضافة إلى إعلاناتٍ صوتيةٍ تُبثُّ على متن وسائل النقل العامة لجعل الرحلات أكثر أماناً وراحة، وهي تتكامل مع أجهزة الإحصاء التلقائيّ للركاب التي تسجّل بياناتٍ دقيقةً لتسهيل دفع الرسوم ومنع التلاعب.
ولأنّ جزءاً كبيراً من السلامة الطُّرُقية يرتبط بالطبيعة، فقد بدأت الحكومة استخدام مصادر البيانات المختلفة لإطلاق خدمةٍ رقميةٍ لمعلومات الطقس تتصل بالمحطات الجديدة. وتتضمّن كلٌّ من هذه المحطات جهاز استشعارٍ يتابع درجة الحرارة والرطوبة ووحدةً مركزيةً متصلةً بأقرب إشارة مرورٍ وبجهاز استشعارٍ آخر مثبَّتٍ على الأرض.
جنباً إلى جنب، تتابع هذه الأجهزة أحوال الطرق وأيّ عراقيل مثل تكوُّن الجليد أو حدوث الانزلاقات أو تراكم الثلوج، وفي حالاتٍ كهذه ترسل المحطّات إشعاراً إلى مركز التحكّم، وذلك لتوجيه فِرق الصيانة الشتوية للطرق وتزويد السكان بمعلوماتٍ عامةٍ سريعةٍ ودقيقةٍ عن ظروف الطقس وحالة الطرق، مع توقُّعاتٍ تصل إلى 48 ساعة. ولتخطيط مواقع المحطّات، تبنّت الحكومة معياراً بسيطاً، فكلّما ازدادت الحاجة إلى معلوماتٍ دقيقةٍ عن حالة منطقةٍ ما، ارتفعت مكانتها على سلّم الأولويات.
يومياً، يضيف مركز التحكّم كلّ معلومةٍ يتلقّاها من المحطات إلى قواعد البيانات الموجودة لديه مسبقاً، وذلك لترقية نظام التنبؤ بالطقس.
إن أحسنت إدارة المرور تطبيق هذه التقنيات، فإنّ من شأنها أن تخفّض احتمالية وقوع الحوادث المرورية، وتحسِّن كفاءة منظومة النقل، وأن تخفِّف حالات الازدحام عبر تنبيه السائقين وتوجيههم إلى طرقٍ بديلة، كما أنها تساهم في إيجاد بيئةٍ مرحّبة لحلول النقل الصديقة للبيئة.
المراجع:
- https://news.err.ee/1006322/smart-traffic-control-system-to-be-built-on-tallinn-ring-road
- https://investinestonia.com/the-town-of-polva-will-get-estonias-smartest-road/
- https://tartu.ee/en/news/smart-road-weather-stations-made-estonia-were-installed-tartu
- https://www.themayor.eu/en/a/view/tallinn-to-forecast-city-traffic-with-digital-system-9804
- https://its-estonia.com/showcases/
- https://its-estonia.com/2020/11/25/real-time-passenger-information/
- https://its-estonia.com/2021/09/30/smart-road-bricks/