بهدف تأسيس حالةٍ من الشفافية والمساءلة، بدأت المدن الأمريكية بإطلاق لوحات بياناتٍ إلكترونيةٍ تجمع كلّ المعلومات المتعلّقة بالجرائم، وبأداء وكالات إنفاذ القانون، وتتيح الحقائق لمواطنيها لاطلاعهم على سير العمل وجعلهم جزءاً من عملية صنع القرار.
يُقال إنّ العلوم تتلاقى إذ تتطوّر. تلك هي حالة علم البيانات الذي تجتمع فيه تخصّصات مختلفةٌ كالهندسة والبحث والإحصاء والرياضيات والبرمجة، ليولد منها علمٌ يطبّق أحدث المبادئ فيحوّل البيانات المجرّدة إلى معرفة تبني عليها الحكومات المعاصرة قرارَها.
لكن في حالاتٍ كثيرة ينبغي للناس أن يكونوا جزءاً من عملية صنع القرار، لا سيما حين يتعلّق الأمر باحتياجاتهم الأساسية، وأبزرُها الأمن والسلامة. معادلةٌ تفهمها الحكومة الأمريكية، فهي التي عانت وما تزال تعاني ارتفاعَ معدّلات الجريمة التي قد تصل في بعض مدنها مثل بالتيمور إلى الاضطرابات العامة، كتلك التي شهدتها المدينة نتيجة اتهام جهاز الشرطة بالعنصرية. تهمةٌ أدانها قسم الحقوق المدنية بوزارة العدل الفيدرالية وأصدر تقريراً يتهم فيه إدارة شرطة المدينة بممارسة التمييز العنصريّ والإفراط في استخدام القوة.
لهذا، بدأ مكتب العمدة بالتعاون مع مجلس تنسيق العدالة الجنائية وكبير مسؤولي البيانات ومكتب رئيس البلدية العملَ لإطلاق خطّة بالتيمور الشاملة للسلامة، والتي تضمّنت أداة بيانات هي الأولى من نوعها، تختص بالمساءلة في قضية السلامة العامة. وهي منصّة تجمع معايير السلامة العامّة والبيانات والخبرات في بوّابة واحدة.
في السيناريو المعياريّ، تكون لوحة البيانات عبارةً عن منصة إلكترونيةٍ تصوّر البيانات كاملةً وبمختلف أنواعها، بعد جمعِها بأيدي موظفين أو عبر الأجهزة الذكية أو من مساهمات القطاع الخاص والمواطنين أو من مصادر أخرى. وتستخدم الحكومات البيانات التي تغطي مجالات مختلفة من الجغرافيا إلى حركة المرور والرعاية الصحية والتعليم والضمان الاجتماعيّ وشبكات الطاقة والنقل والاتصالات وغيرها.
في بالتيمور، استخدمت الأجهزة الأمنية تحليلات البيانات الضخمة لتحديد الأماكن التي يُرجّح وقوعُ الجرائم فيها أكثر من غيرها، والنقاط التي تبلغ فيها تهديدات السلامة العامة أوجها لتحويل الموارد اللازمة إليها واتخاذ الاحتياطات وتعزيزها بإجراءات الحماية.
تستند خطة المدينة إلى ركيزتَين أساسيتَين، وهما التقييم، أي قياس التقدّم الذي تحرزُه الأجهزة الأمنية، والمساءلة، إذ لا تتيح لوحة البيانات الوصول للعامة فحسب، بل وتمكّنهم من مساءلة الكيانات المعنية بحمايتهم حول تنفيذ الاستراتيجيات، وتجمع مخاوفهم ورؤاهم لتحديد أفضل الممارسات لقياس فاعلية الأجهزة الأمنية في مجال السلامة العامة.
لضمان تقديم أفضل وصولٍ ممكنٍ وأسهل آلية استخدام، عقد الفريق مجموعات تركيزٍ لتجربة لوحة البيانات قبل إتاحتها للاستخدام العام.
في أية لحظة يدخل فيها الزائر المنصة، سيجد معلوماتٍ دقيقةً دائمة التحديث وأرقاماً حقيقيةً لأعداد الدوريات التي تجوب الشوارع والجرائم التي حدثت ومواقعها وسرعة استجابة القوى الأمنية لها وعمليات الاعتقال. كما تبيّن لوحة البيانات شروحاتٍ نصيةً ومرئيةً للأحياء والتركيبة السكانية لضحايا العنف ولكن دون التطرق إلى بيانات شخصية.
أما في مدينة دالاس بولاية تكساس، فقد أطلق مكتب تحليلات البيانات وذكاء الأعمال بالتعاون مع إدارة شرطة المدينة مبادرةً لتطوير لوحة بياناتٍ تفاعليةٍ جديدةٍ تختصّ بالجرائم، لتكون مرجعاً شاملاً للمعلومات الجنائية. تخضع المنصة للتحديث اليوميّ، وتُقدّم ضمن خرائط موجزةٍ وبشكلٍ يسهُل على المتلقّي العاديّ فهمُه، دون المساس بخصوصية الضحايا أو فضح هوياتهم أو مشاركة بياناتهم الحساسة، حيث ستكتفي بعرض رسومٍ بيانيةٍ لمعدّلات الجرائم المختلفة على مدار العام من سرقةٍ وعنفٍ أسريّ وجرائم كراهيةٍ وغيرها. وستكون هذه المعلومات موزّعةً ضمن تصنيفاتٍ متعدّدةٍ كالمنطقة ومركز الشرطة وموقع تلقّي البلاغ والرمز البريديّ وما شابه.
ولتمكين الناس من تحقيق الاستفادة القصوى من هذه المعلومات، نشرت المدينة إرشاداتٍ مفصّلةً حول كيفية استخدامها.
ليست هذه المنصة الأولى من نوعها في المدينة، فهي تمتلك لوحة بياناتٍ تفاعليةً لحالات العنف المنزليّ لعرض الإحصائيات والمعلومات وزيادة الوعي العام.
من الجدير بالذكر أنّ الحكومة الفيدرالية الأمريكية كانت قد بدأت منذ العام 2009 بتطوير لوحات بياناتٍ بغية إنعاش الاقتصاد الوطنيّ في أعقاب أزمة الاقتصاد العالمي، لتتبعَها عدة حكومات محلية وتنشئ لوحات مشابهة متاحة للعامة، بعد فترةٍ من التخوّف من أنّ خطوةً كهذه تتطلّب تقنياتٍ ثورية، لكنّها في الحقيقة لا تتطلّب سوى الرؤية والإرادة والالتزام من قبل سلطات إنفاذ القانون ورواد قطاع تكنولوجيا المعلومات.
لا يعني ذلك أنّ ثمة منهجيةً واحدة ووحيدة يمكن تطبيقُها في كلّ الحالات، فالأمر محكوم بالأُطُر القانونية التي تتبنّاها كلّ ولاية أو مدينة. وهذا هو الحال في الفيدراليات، حيث ينبغي على كلّ سلطة قانونية أن تؤقلم مشروعها وفقاً لظروفها المحلية.
في أحيان كثيرة، يكون استخدام لوحات البيانات هذه صعباً، فعند التعامل مع بيانات تنطبق على سياقات محدّدة، إن لم تكن ثمة معرفة حقيقية وشاملة بهذه السياقات وكيفية تجميع البيانات، يصبح هامش الخطأ كبيراً في تفسير المعطيات وتحليلها.
اليوم، تحظى مدينة بالتيمور بمستويات أعلى من الشفافية، وكذلك الأمر في دالاس التي تبني أيضاً فهماً وتحليلاتٍ أعمقَ لجهاز الشرطة ونوعيات الجرائم.
من المؤكّد أنّ لوحات البيانات ليست حلّاً سحرياً للجرائم، لكنّها ستقدّم معلومات تعزّز أداء السلطات، إذ يمكن لها المساعدة في تكريس القيم العليا كالأمن والسلامة والشفافية والمساءلة، والإسهام في تقريب الحكومة من الجمهور وبناء الثقة لديهم عبر إشراكهم في عملية صنع القرار.
المراجع:
- https://monse.baltimorecity.gov/gvrs-new
- https://mayor.baltimorecity.gov/news/press-releases/2023-02-28-mayor-scott-unveils-public-safety-accountability-dashboard
- https://www.smartcitiesworld.net/citizen-engagement/citizen-engagement/baltimore-launches-public-safety-dashboard-data-tool
- https://www.nytimes.com/2019/03/12/magazine/baltimore-tragedy-crime.html
- https://dallascitydata.dallascityhall.com/views/CrimeAnalyticsDashboard/CrimeOverviewD?:showAppBanner=false&:display_count=n&:showVizHome=n&:origin=viz_share_link&:refresh=yes&:isGuestRedirectFromVizportal=y&:embed=y
- https://www.dallasopendata.com/stories/s/r6fp-tbph
- https://www.dallascitynews.net/the-city-of-dallas-launches-a-new-crime-analytics-dashboard
- https://spectrumlocalnews.com/tx/dallas-fort-worth/news/2022/10/11/city-of-dallas-launches-interactive-domestic-violence-dashboard
- https://dallascitydata.dallascityhall.com/views/DomesticViolenceDashboard/DallasDomesticViolenceCrimes?:iid=1&:isGuestRedirectFromVizportal=y&:embed=y