على اعتبار أنّ المشتريات الحكوميّة للمنتجات المبتكَرة تشكّل أداة مهمةً لتحفيز الابتكار وتعزيز النمو، فقد أطلقت الحكومة الكورية سياسةً جديدة تجمع الجهات الحكومية المختلفة والخبراء وروّاد البحث والتطوير لاختيار الابتكارات المؤهلة للشراء الحكومي، بغية دعم انتشارها في السوق الكبرى.
تُخصّص البلدان ذات الاقتصادات الرائدة جزءاً من ميزانياتها وسياساتها لاحتضان الابتكارات الجديدة ودعمِها وتنميتِها. وفي كوريا، ترتبط عملية الشراء الحكومي للابتكارات بعدة برامج تتبع لجهاتٍ حكوميةٍ مختلفة، أولُها "شراء المنتج الممتاز" التابع للدائرة العامة للمشتريات، ثم "الشراء التفضيلي للتطور التكنولوجي" المرتبط بإدارة الأعمال الصغيرة والمتوسطة، وبرنامج "الشراء الإجباري للمنتج الجديد الممتاز" الذي تديره وزارة الصناعة.
بيدَ أنّ هذه البرامج لم تلقَ ردود الأفعال المرجوة من المعنيين في القطاعَين الحكومي والخاص، إذ واجهتها 3 تحدياتٍ رئيسية. فبدايةً، افتقرت السياسة الكورية الخاصة بالأعمال الصغيرة والمتوسطة إلى الاهتمام الكافي لتعزيز الابتكار التكنولوجي، كما أنّ عملية الشراء الحكومي تركِّز على التسعير وتمنحه الأولوية على حساب جودة المنتجات أو قيمتها المبتكَرة، تُضاف إلى هذا صعوبةُ إشراكِ المعنيين بالابتكار في عملية الشراء. ومن هنا، ظهرت الحاجة لمواجهة هذه التحديات ونقلِ الممارسات الحالية في عالم الابتكارات خطوة إلى الأمام في طريق الاستدامة.
صوبَ هذه الغاية، عملت الحكومة الكورية على تصميم نموذج جديد مبتكَر للشراء الحكومي، وبدأت بتنفيذ سياستها الجديدة التي أسمتَها الاعتماد الأولي لشراء البحوث المبتكَرة.
حيث وضعت وزارة الاقتصاد الإطار المفاهيمي للبرنامج بالتنسيق مع مكتب الرئيس والدائرة العامة للمشتريات في العام 2019، ليجري تطويرُه لاحقاً بمشاركة خبراء من خلفياتٍ أكاديميةٍ وحكوميةٍ وبلديةٍ مختلفة، حتى الإطلاق الرسميّ مطلعَ العام 2020.
تقوم وزارة العلوم بتصميم وتنفيذ السياسات الخاصة بالبرنامج وبعمليات المصادقة ومنح الاعتماد الأوليّ، وتأمين الميزانيات والخبراء والدعاية. أما الدائرة العامة للمشتريات، فتتولى تقييم جودة المنتجات وتسجيلها قبل وبعد المصادقة ومنحِ الاعتماد الأوليّ لعمليات الشراء الفعلية، في حين تدير جمعية التكنولوجيا الصناعية عمليات المراجعة التي يجريها الخبراء.
يقوم البرنامج على التعاون مع مشاريع البحث والتطوير الحكومية التي تجريها وزارة العلوم وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والتي تنفق حوالي 22 مليار دولار أمريكي، ما يعادل نصف الميزانية الوطنية للبحث والتطوير. فالوزارة والهيئات التابعة لها تتمتع بمعرفةٍ تراكميةٍ بالابتكارات المؤهَّلة للشراء، إلى جانب سلطة تنسيق البرامج ذات الصلة وإدارة السياسات التي تستهدف قطاع الابتكار المحدد. وهكذا، جمعت الوزارة جهود 3000 عضواً من الباحثين والمحللين والسياسيين والعلماء وغيرهم من المعنيين والخبراء الذين يغطون 24 مجالاً فرعياً تقنياً، وذلك للمصادقة المسبقة ومنح الاعتماد الأوليّ، بدلاً من مراجعة تطبيقات شراء الابتكار. يحظى هؤلاء الخبراء بدعم ومساعدة من العلماء الذين يشاركون سنوياً في 60 ألف مشروعٍ حكوميٍّ للبحث والتطوير.
يجمع المشروع ما بين الأبحاث الأكاديمية وجهود التنمية في كلا القطاعين الحكومي والخاص، والتأثيرات الاقتصادية والاجتماعية للابتكارات، وكذلك مساهمتَها التجارية. وبعد مراجعة كلّ هذه العوامل من قبل الخبراء، واختيار المنتجات المبتكَرة، يتم تأهيلُها للانتقال مباشرةً إلى مرحلة الشراء الحكوميّ دون المرور بالعمليات البيروقراطية التقليدية. لهذا، تعاونت وزارة الاقتصاد والدائرة العامة للمشتريات لتمكين ما سُميَ بـ "الطريق السريع" للشراء الحكومي، والذي يسمح بالتعاقد غير التنافسيّ للمنتجات المبتكَرة، لتمكين أصحابها من إيجادِ أسواق مبكِّرة وتحقيقِ مبيعاتٍ أولية وتوسيعِ نطاق الإنتاج لفائدة الشركات والمعاملين والباحثين.
يستهدف المشروع الابتكارات التي طوّرتها البرامج الحكومية للبحث والتطوير بخلاف النماذج السابقة التي كانت تفتقر لشرحٍ واضحٍ ودقيقٍ حول نطاق أيّ ابتكار، وبالتالي، حول المعنيين والمستهدفين.
ويجري حالياً العمل مع المنتِجين في مجالات التكنولوجيا الحيوية وإمدادات الغذاء في حالات الطوارئ والمدن الذكية والخدمات العامة المعتمِدة على الذكاء الاصطناعيّ وغيرها.
أمامَ النتائج الإيجابية التي حققها هذا النهج الجديد، فقد فرضَ تحدياً كبيراً يتمثّلُ بحاجتِه إلى اهتمامٍ وجهدٍ مضاعَفين، إلى جانب الميزانية والتنظيم الهائلَين الذين يتطلبُهما تنظيمُ عمل لجان الخبراء لمواكبة الإقبال المتزايد، لا سيما بالنظر إلى تصميم العملية المتشابِك. وفي هذا السياق، ترى الحكومة أنّ عامل النجاح الرئيسيّ يتمثّل بسرعة التنفيذ، وإن استطاعت مواكبة سرعة الابتكار في السوق، فستنتظم العملية تلقائياً.
بالاستعانة بالخبرات الوزارية، حظيَ البرنامج بقاعدةٍ أوسع وفهمٍ أعمقَ للابتكارات، فبات ممكناً تحديدُ الابتكارات التكنولوجية التي تتصف بالحداثة والإبداع الحقيقيين، وإبرازُ آثارها الاجتماعية والاقتصادية المتوقعة. من شأن هذا أن يساعدَ في بناء الثقة مع الشركات المبتكِرة، وأن يرفعَ وتيرة الأبحاث التي تستهدف المصلحة العامة، وأن ينشئ قاعدةً للشراكات بين القطاعين الحكومي والخاص، ويمهِّدَ لتكرار التجربة في هيئات أخرى بشرط توافر الخبراء والموارد والاستعداد للمخاطرة والتغيير.
تمكّن البرنامج من التنسيق بين الهيئات الحكومية المختلفة وجذب المزيد من أصحاب الابتكارات. وبفضله، حظيت الشركات المبتكِرة بفرصةٍ لتصميم منتجاتِها وتعديلِها، وكذلك تمكنت الجامعات والمختبرات الحكومية من تقييم عملِها ضمن دورةٍ مبتكرة من إعادة الاستثمار.
في العمق، يساهم الاحتضان الحكومي للابتكارات في التنمية، وتعزيز المصداقية، وتقديم خدمات عالية الجودة، والاستجابة للاحتياجات الاجتماعية المتغيرة، ودعم الشركات المبتكِرة في الانطلاق والنمو، وتشجيع الأسواق الكبرى على الابتكار.
المراجع: