على عكس بعض الحكومات التي اتخذت موقفاً متحفظاً، بل وسلبياً أحياناً، حيال اعتماد روبوت الدردشة المستند إلى الذكاء الاصطناعي في العملية التعليمية، تعملُ حكومة سنغافورة بجدية على اختبار تطبيقاتٍ تستند إلى الذكاء الاصطناعي وترمي إلى تعزيز تجربة التعلّم للطلبة وللمعلّمين على حد سواء، وعلى ثلاثة محاور: التعلّم التكيّفي، وتقييم أعمال الطلبة، وتقديم ملاحظات على النصوص البرمجية التي يقدمها طلبة البرمجة.
حظي الذكاء الاصطناعي في السنوات القليلة الماضية باهتمام العالم المتلهف لحصد نتائج التقدّم التقني الكبير الذي سيتحقق بفضله، وقطف ثماره الموعودة على مختلف الأصعدة وفي شتّى الميادين. بيد أن الظهور الأول لـChatGPT، روبوت الدردشة المدعوم بقدرات الذكاء الاصطناعي، نوفمبر 2022، أثار ردود فعل متباينةً، بل ومتناقضة في بعض الحالات.
ففي حين بدا معظم العالم مفتوناً بهذا الإنجاز، مع مليون مستخدم سارعوا إلى استخدامه خلال الأسبوع الأول وحده، شهدنا استجاباتٍ أقلّ ما يقال عنها إنّها تتسم بالريبة والحذر حيال استخدام هذه المنصّة في المؤسسات التعليمية العامة. وصل الأمر في بعض الحالات إلى درجة أنّ بلديات مثل سياتل ونيويورك اتخذت قراراً بحظرها في المدارس الحكومية، بداعي أنّها قد تقوّض الأمانة الأكاديمية، وتساعد على الغش، وتفسد فرصة الطلبة في امتلاك القدرات المعرفية الأساسية، وفي تعلّم التفكير النقدي، وفي اكتساب مهارات حل المشكلات.
أمّا سنغافورة، الدولة التي تمتلك استراتيجية طموحةً لبناء دولة ذكية يمكنها التكيّف مع التقنيات الحديثة التي يتكشّف عنها المستقبل، فيبدو أنّ لها رأياً آخر تجاه ChatGPT وبعض التطبيقات الأخرى. إذ قررت الحكومة أن تخوض غمار التحدّي، وأن تستكشف سبل استخدام هذه التطبيقات لتعزيز تجربة التعلّم لكل من الطلبة والمعلمين.
وصولاً إلى هذا الهدف، وعلى جبهة معلمي المدارس ومؤسسات التعليم العالي، باشرت وزارة التعليم السنغافوريّة في الآونة الأخيرة دراسةَ سبل توجيههم وإرشادهم إلى الاستفادة الفعّالة من أدوات الذكاء الاصطناعي، مثل ChatGPT، لتعزيز العملية التعليمية. وعلى جبهة الطلبة، أقرّت الوزارة ذاتها بحقيقة أن أدوات الذكاء الاصطناعي ستنتشر عاجلاً أم آجلاً بين صفوفهم، وسيتفشّى استخدامها على نطاق واسع فيما بينهم، فقررت أن تُمسك بزمام المبادرة، عبر تزويدهم بالمهارات اللازمة لاستخدام هذه الأدوات استخداماً مسؤولاً.
في هاتين الجبهتين حدّدت الحكومة ثلاثة تحديات. الأول يخصّ الطلبة، ويتمثل في توجهها نحو دعم "التعلم التكيفي" الذي يراعي الاختلاف في اهتماماتهم وخطوات تعلمهم. والثاني يخصّ المدرّسين ويعمل على تبسيط وتسريع عملية تصحيح الاختبارات ومنح العلامات للطلبة. أما الثالث، فهو تحدّ تعليمي يتمثّل في تقديم ملاحظات لطلبة البرمجة على نصوصهم البرمجيّة التي يعدّونها.
التعلّم التكيّفي الذي تسعى سنغافورة إلى دعمه هو أسلوب من أساليب العمليّة التعليميّة يراعي الاختلاف في اهتمامات الطلبة، وفي وتيرة تعلمهم وفي إيقاع تحصيلهم الدراسيّ، من خلال برامج دراسية تكيّفية تلبّي احتياجات كلٍّ منهم الفردية. تنبع أهمية هذا الأسلوب من كونه يقدّم تجربة تعلّم أكثر تخصيصاً للطلبة، يخلّصهم من تصميم الدرس التقليدي، ومن وتيرته التي عادة ما يراد منها أن تلبي المستوى المتوسط من الطلبة، فتتسبب بمشكلاتٍ، خصوصاً حين يتخلّف الطلبة الأبطأ عن الركب ويفقدون الدافع، أو حين يشعر الطلبة الأسرع بالإرهاق إذا تسارعت وتيرة التعلّم.
كما يستند التعلّم التكيّفي إلى حقيقة أنّ للمعلمين أيضاً قدراتهم المحدودة على تخصيص تجربة التعلم لكل طالب أو تقديم ملاحظات مستمرة، فضلاً عن أنّ المهام الروتينية تستهلك وقتاً يمكن للمعلمين أن يستخدموه في تعزيز خبرات تلاميذهم. لذلك تقرّر إضافة إمكانيات الذكاء الاصطناعي إلى المنصة التعليمية الوطنية المتاحة عبر الإنترنت لجميع الطلبة والمعلمين في البلاد، التي أُطلقت في 2018. فبإضافة هذه الإمكانيات سيُمكن إدارة الجداول الزمنية لكل طالب، واكتشاف أن الطالب يستغرق وقتاً أطول في المهام الموكلة إليه، فيمنحه مزيداً من الوقت لفهم كل درس، في حين يمكن للطلبة الأسرع الوصول إلى الدروس في فترات زمنية أقصر. يضمن هذا النهج استمرار تنظيم العملية التعليمية، فيمنع الإرهاق ويوفر تجربة تعليمية مخصصة لكل طالب، من خلال تصميم مسارات تعلم خاصة به، تتتّبع تقدمه، لمساعدة المعلمين على سدّ فجوات التعلم بشكل أفضل.
في حين يأتي التحدي الثاني، المتمثل بتبسيط وتسريع عملية تصحيح الاختبارات ومنح العلامات، بمثابة علاجٍ لمسألتي الضجر والدقة، اللتين تصاحبان تلك العملية. فباستخدام ميزة "رؤية الكمبيوتر" ستعمل تقنيات الذكاء الاصطناعي على أتمتة التقييمات لتعزيز قدرة المعلمين على تقديم ملاحظات فعالة في الوقت المناسب.
الحلّ جاء عن طريق مركز الذكاء الاصطناعي لتقنيات التعليم الذي طور برنامجاً يدعى سوفت مارك SoftMark، يعفي المعلّمين من أن يكدّسوا أوراق الامتحانات في منزلهم لاستعراضها واحدة تلو الأخرى، ويسمح لهم بالتصحيح ومنح الدرجات بسهولة أثناء تنقلهم، بعد أن تتعرّف الأجهزة على المعلومات المهمة وتستخلصها من الصور. هذا الحل سيجنّب المعلمين الوقوع في الأخطاء، إذ لم يعد يتعين عليهم القلق بشأن وضع العلامة ذاتها للإجابات ذاتها، ما يؤدي إلى زيادة الكفاءة والعدالة.
التحدي الثالث هو تقديم ملاحظات متقدّمة لطلبة البرمجة على نصوص البرامج التي يعدونها. فالأنظمة الحالية لدراسة البرامج توفر ملاحظات محدودة، تقتصر على تبيان صحة البرامج المقدمة، ويتعذر عليها إبداء ملاحظات للطلبة حول كيفية تحسين برامجهم إن أخطأوا في صياغتها، أو تقديم تعليقات فورية تمكّنهم من تصحيحها للوصول إلى النتائج المرجوة.
للوصول إلى هذه الغاية، طوّر مركز الذكاء الاصطناعي لتقنيات التعليم برنامجاً يُعرف باسم كودافيري Codaveri، يستخدم مزيجاً جديداً من لغات البرمجة وتقنيات تعلّم الآلة، ويُساعد في تقديم ملاحظات للطلبة حول نصوصهم البرمجية. لا يكتفي البرنامج بمجرد إعطاء الطلبة الحلّ النهائي، بل يزوّدهم بالملاحظات المناسبة عندما يكتشف الأخطاء في إجاباتهم، بحيث يمكن للمدرسين بعد ذلك مراجعة هذه الملاحظات وإجراء ما يلزمها من تعديلات أو إضافات إذا لزم الأمر.
بعيداً من الجدل العالمي المحتدم، تمضي سنغافورة بثقة نحو استخدام الذكاء الاصطناعي في العملية التعليمية، كجزء من مساعيهم لأن تتمتع القوى العاملة في البلاد، بحلول عام 2030، بالقدرات اللازمة لدعم الاقتصاد الذي يحرّكه الذكاء الاصطناعي، وأن تتعزز طاقات مهندسيها وروادها لخلق منتجات وخدمات جديدة للذكاء الاصطناعي تخدم الأسواق المحلية والعالمية.
المراجع:
https://www.smartnation.gov.sg/files/publications/national-ai-strategy.pdf
https://www.theguardian.com/us-news/2023/jan/06/new-york-city-schools-ban-ai-chatbot-chatgpt
https://www.zdnet.com/article/singapore-wants-widespread-ai-use-in-smart-nation-drive/
https://govinsider.asia/intl-en/article/3-ways-Singapore-is-trialling-AI-in-education
https://opengovasia.com/singapore-government-invested-in-ai-to-advance-the-smart-nation-journey/
https://govinsider.asia/intl-en/article/inside-singapores-plans-to-digitalise-education