للحفاظ على موقعها كمركزٍ عالميٍّ للنقل العابر، شرعت سنغافورة ببناء ميناء جديد ذي مساحة أكبر وتجهيزات تقنية متطورة ستحقق طموح البلاد بأن تكون أكبر نقطة شحن بحري على الإطلاق.
تتنوَّع اقتصادات الدول بتنوّع جغرافيتها، وغالباً ما تتميز البلدان الجُزُرية باقتصادات أصغر ومعزولة نسبياً عن المنظومات العالمية، وتحكمُها معايير اقتصادية تختلف عن نظيراتها ذات الحدود البرية.
كدولة جزرية، استطاعت سنغافورة منذ الثمانينات بناء صلات اقتصادية دولية، مستفيدةً من اعتماد 80% من التبادلات التجارية العالمية على الملاحة البحرية، فهي ترتبط بـ 600 ميناء في أكثر من 120 دولة، وتستقبل أكثر من 130 ألف سفينة كلّ عام، فتربط – بوقوعها عند مضيق ملقا – الدول الآسيوية المصنّعة بتلك المستهلكة في أوروبا، ما رسَخ مكانتها كموقع رئيسي للنقل العابر، وهو عملية توقّف السفن في منفذ التوزيع لتفريغ البضائع التي ستحملُها سفنٌ أخرى إلى وجهاتِها. ونظراً لهذه الأهمية، فحتى آثار جائحة كوفيد-19 جاءت أقلّ وطأة على ميناء سنغافورة الرئيسي، لكنّها فرضت تحديات كثيرةً على حركة التجارة العالمية عموماً. فالموانئ هي النقاط الأبرز التي تَنظُم نشاطاً تفوق قيمتُه السنوية 22 تريليون دولار، وقد غيّرت الجائحة طبيعة سلاسل التوريد العالمية وقادت نظام الشحن التقليديّ إلى الانهيار، فلم يعد بالإمكان انتظار نفاد البضائع القديمة للتزوّد بالجديدة، وبات المصدِّرون الآسيويون يواجهون مشقّة في خدمة عملائهم الغربيين. واقعٌ فاقمته الحرب الروسية الأوكرانية، وبالتالي كان لا بدّ من إعادة رسم المشهد، ومقاربة أوجه القصور في السعة والسرعة والكفاءة وتراكم الحاويات بسبب صعوبة إنجاز الأعمال الورقية وضعف القوى العاملة ونقص الشاحنات.
صوبَ هذه الغاية، رصدت الحكومة السنغافورية 14 مليار دولار أمريكيّ لإطلاق أكبر ميناء مؤتمت في العالم في العام 2040. سيتم بناء ميناء "تواس" على ضعفي مساحة الميناء القائم اليوم، ليغطي أراضٍ بدأت الحكومة استصلاحَها منذ العام 2013. سيتضمن تقنيات كالطائرات المسيّرة من دون طيار، والمركبات الكهربائية ذاتية القيادة، ووظائف الرصيف الآلي، وذلك لمضاعفة عمل الميناء الذي يتعامل سنوياً مع 45 مليون وحدةً مكافئة لعشرين قدماً، أي 45 مليون حاوية بطول حوالي 3 أمتار ونصف، وعرضِ قرابة 7 أمتار، وارتفاعٍ يتراوح بين متر ونصف و3 أمتار.
تقنياً، تتجه الحكومة لتحسين قدرة الميناء على متابعة العمليات التي تحدث في البحر وتنسيقِها، وتُجري حالياً اختبارات لعدة ابتكارات تخدم هذا الغرض، مثل نظام الجيل التالي الذي يدير حركة السفن عبر التنبؤ بنقاط الازدحام، أو "النافذة الواحدة" البحرية التي تبسّط إجراءات التخليص وتسمح بإجرائها إلكترونياً، أو "نظام التخطيط والتنسيق في الوقت الملائم" الذي ينظم رسوَ السفن ودورانها استعداداً للإبحار، أو الطائرات المسيّرة من دون طيار التي تجري عمليات التسليم بين الشاطئ والسفينة وتساعد الطواقم الأمنية في عمليات التفتيش، فحين يستقبل الميناء سفينةً بحمولة إجمالية تزن 300 طن فما فوق، يتجه إليها مسؤول مرخّص على متن مركبٍ صغيرٍ، ويصعد لإرشاد الربان للتنقل بأمان عبر المياه السنغافورية.
في السياق نفسه، تعمل هيئة تطوير التطبيقات المعلوماتية مع هيئة الملاحة البحرية والموانئ لتزويد كلّ مرافقها بتغطية الجيل الخامس بحلول العام 2025، لتوجيه السفن المُقبلة إلى الميناء عن بُعد عبر بث مباشر بالصوت والصورة، ومعرفة حمولتِها وإجراء عمليات التفتيش والصيانة الطارئة، وإعطاء الإرشادات الطبية في حال عدم وجود طاقم طبي على متن السفينة،
لكنّ أهمّ نقطة ستكون استخدام المركبات ذاتية القيادة التي ستنقل الحاويات بين الساحات والأرصفة حيث تنتظرها السفن، وبدل سائقٍ لكلِّ شاحنة، سيكون هناك موظف يقود شاحنة واحدة مزوّدة بأجهزة استشعار وتقنيات اتصال لاسلكية لتوجيه قافلة من الشاحنات الأخرى داخل الميناء وخارجه. والمُراد لهذه التجربة أن تتكاملَ مع أنظمة المعلومات التي تتيح تتبّع الشاحنات والإبلاغ عن أي زيادات في الطلب لجميع أطراف سلسلة التوريد.
وبحلول العام 2027، سيدمج الميناء الجديد كلّاً من محطات "تانجونغ باغار" و"كيبيل" و"براني"، فيما سيشمل محطة "باسير بانجانغ" في العام 2040.
إلا أنّ الطموح السنغافوري سيواجه من دون شك تحديات كبيرة، أولُها منافسة دول الجوار كالصين التي تعمل منذ سنوات على زيادة الطاقة الاستيعابية لموانئها، والتي تنفرد بـ 7 من 10 من أكبر موانئ الحاويات في العالم، وتنمّي لخدمتها شبكة سككها الحديدية فتوجد بدائل أرخص من النقل الجوي.
ويبقى تحدي العصر متمثلاً بتغير المناخ الذي يرفع منسوب سطح البحر ويفرض تحدياً وجودياً طويل الأمد، ولهذا، قررت السلطات أن يرتفع الميناء الجديد لأكثر من 5 أمتار فوق سطح البحر لضمان حمايته في وجه أي تهديدات مستقبلية.
بتمكين التبديل السريع للحاويات في الموقع، سيتعامل الميناء سنوياً مع 65 مليون وحدة مكافئة لعشرين قدماً، أما إدماج المحطات المختلفة، فسيوّحد العمل ضمن شكل أكثر تنظيماً، ولن تضطر الشاحنات إلى عبور ازدحام المدينة لنقل البضائع من محطة إلى أخرى، ما سيختصر ساعات الانتظار لتحميل البضائع.
ستفيد المركبات ذاتية القيادة في الحدّ من العمل اليدوي، كما ستعمل على تخفيف أعبائه، وإنجاز مهام أكثر خطورة، وزيادة الرقابة للكشف عن التهديدات المحتملة. وسيجعل اعتمادُ نظام النافذة الواحدة سنغافورة واحدة من الدول السبع التي تقبل مستندات الشحن الإلكترونية التي تسهّل العمل وتخفّف الأثر البيئي للأعمال الورقية. أما تغطية الجيل الخامس، فستساهم في تعزيز السلامة وكفاءة الخدمة واستخدام الموارد وتقليص وقت الاستجابة وترقية أداء السفن القادمة إلى ميناء سنغافورة والمغادرة منه.
المراجع:
- https://www.smartcitiesworld.net/4g-and-5g/singapore-to-create-testbed-for-maritime-5g-use-cases
- https://www.ship-technology.com/analysis/why-is-singapore-port-so-successful/
- https://govinsider.asia/security/exclusive-singapore-wants-robots-to-run-its-ports/ https://www.mpa.gov.sg/docs/mpalibraries/mpa-documents-files/comms-and-community/singapore-maritime-gallery/row-232-theme-2.pdf#:~:text=As%20a%20premier%20Global%20Hub%20Port%2C%20Singapore%20is%20linked%20to,trade%20comes%20by%20the%20sea
- https://www.bloomberg.com/news/articles/2022-06-28/singapore-mega-port-could-offer-solutions-to-supply-chain-crisis
- https://www.channelnewsasia.com/commentary/tuas-mega-maritime-port-challenges-singapore-shipping-hub-877421
- https://www.eco-business.com/news/as-sea-levels-rise-can-singapore-ratchet-up-the-ambition-of-its-climate-targets/