لمواجهة تحدٍّ صعب، أطلقت بلدية مدينة فينيكس بولاية أريزونا الأمريكيّة مشروعَ وحدات التّوظيف المتنقّلة، التي تأخذ بيد الباحث عن عملٍ عبر التدريب والتوجيه والدعم إلى أن يعثر على فرصته، مُحدِثةً تحوّلاً من النماذج المركزيّة الثابتة إلى الأساليب الديناميكيّة الموجّهة نحو المجتمع، ومقدِّمةً دروساً قيِّمةً في الإدارة الحَضَريّة وتقديم الخدمات العامة، في تجربة أوصلتها إلى تحدّي رؤساء البلديّات العالميّ.
يروق للاقتصاديّين التفكيرُ بأنّ ثنائيّةَ العرض والطّلب تستطيع تفسير كلِّ شيء في العالم، فهل ينطبق هذا على القوّة البشريّة أيضاً؟ بعبارةٍ أخرى، تقول القاعدة إنّه حين يكون اقتصادُ بلدٍ ما في حالة ممتازة وإنتاجُه في ازدياد، من البديهيّ أن يُترَجم هذا إلى زيادةٍ في الطلب على اليد العاملة، والعكسُ بالعكس، وهو ما يسمّى البطالة الدوريّة.
لكنّ ثمّةَ حالاتٍ أخرى تخرج عن هذه القاعدة، منها ما ولَّدته جائحة كوفيد-19، التي استطاعت، وفي غضون أسابيع فقط، أن تقطعَ سبل عيش الملايين، حتى في دولةٍ قويّةٍ كالولايات المتحدة. وقد شهدت الأخيرةُ أزمة بطالةٍ كبرى، تجلَّت في بعض الأماكن بمفارقاتٍ فريدةً من نوعها، كما في بلدة فينيكس بولاية أريزونا، التي تشهد زيادةً في الشّواغر وإعلانات التوظيف يقابلُها ارتفاعٌ في معدّلات البطالة. أضف إلى ذلك أنّ الجائحةَ قد فتحت الباب لأنماط عملٍ جديدةٍ، كالعمل عن بُعد، وهذا ما يحتاج إلى مهاراتٍ تكنولوجيّة قد لا يمتلكها الجميع. فأصبح الحصول على وظيفةٍ أصعب فأصعب، بالنسبة لمن يواجهون صعوباتٍ في النّقل إلى أماكن عملٍ بعيدة، أو من يفتقرون للمعرفة التكنولوجية، فيما أصبح الوصول إلى موارد العمل التقليديّة مسعى شاق، لمن يعاني الأمْرَين، وخاصةً في المجتمعات المهمَّشة.
بحثاً عن مقاربةٍ لهذه الحالة غير المعتادة، أطلقت بلديّة فينيكس مشروع وحدات التّوظيف المتنقّلة، التي يمكن لأبناء المجتمع المحليِّ الوصول إليها في كلِّ مكانٍ من مدينتهم تقريباً، وفي مواعيد مختلفة. وقد مثّلت هذه المبادرة جزءاً من ملفّ فينيكس الذي شاركت به في تحدّي رؤساء البلديّات العالميّ، الذي تطلقه مؤسسة بلومبيرغ الخيريّة لتشجيع المدن على إيجاد حلولٍ مبتكرةٍ للتحدّيات الحضريّة.
يقدّم المشروع نهجاً خدميّاً شاملاً، فهو ليس مجرد وسيلة ربط بين صاحب عملٍ وباحثٍ عن فرصة، بل يساعد الأخير في بناء سيرته الذاتيّة ويقدّم له المشورة المهنيّة والتدريب الوظيفيّ والتحضير لمقابلات العمل وحتى حلول رعاية الأطفال. وتعمل الوحدات على جعل فرص التوظيف فوريّة، فتؤمّن للباحثين فرصاً للتّواصل المباشر مع أصحاب العمل.
للوصول إلى هذه المرحلة، جمع فريق المطوِّرين النتائج التي توصّلت إليها تجارب فينيكس السابقة في مجال الخدمات المتنقّلة، مثل الشّاحنات التي كانت تتنقّل بين الأحياء لتجري للمواطنين اختبارات الإصابة بفيروس كورونا. وكان ذلك ضروريّاً لفهم الجوانب اللوجستيّة والتشغيليّة لهذا النّوع من المشاريع، خاصةً أنّه زوّد الفريق بتعليقات السكّان المحليّين على نقاط الضّعف واقتراحاتهم لتلافيها، وهذا لتُصمَّم الخدمة الجديدة وفق احتياجاتهم بدقّة.
لا يعني هذا أنّ التجربةَ بدورها لم تمرّ بتحدّياتٍ ونقاطِ ضعفٍ، فقد واجهت مثلاً تحدّي الاعتبارات اللوجستيّة، مثل تحديد المواقع والمواعيد الأنسب لتشغيل الوحدات، وعدد الدورات اللازمة لكلّ وحدةٍ ولكلّ منطقة، إلى جانب التّعريف بهذه الوحدات لتشجيع الباحثين عن عملٍ على استخدامها. وكانت مواجهة هذين التحدّيين بتكثيف التواصل الموسّع مع المجتمع المحليّ والتنسيق مع المنظمات والجمعيات الأهليّة.
على المستوى التشغيليّ، كان التحدّي الثالث متعلّقاً بالتكنولوجيا والموارد، التي يجب أن تكون مستمرّةً ومرنةً بما يكفي للتعامل مع احتياجات المجتمع المتنوّعة، وهذا ما تطلّب تخطيطاً استراتيجياً مدروساً لتوزيع الموارد والتمويل.
أما التحدّي الرابع، فهو إدارة العلاقة مع أصحاب الأعمال، التي قد تتشعّب وتمرّ بمراحل من عدم الرّضا، كأيّ عملٍ متعدّد الأطراف، لذا، كان لا بدّ من شراكاتٍ تعاونيّة قويّةٍ ومتينةٍ ويمكن الحفاظ عليها عبر التواصل الدائم والمرونة.
تزيحُ وحدات التّوظيف المتنقّلة عبءَ المسافات البعيدة عن الباحثين عن عمل، فتزيد إمكانيّةَ الوصول إلى حدٍّ كبير. وعلى مستوى أعمق، تعالج هذه المبادرة قضايا أهمّ تتعلّق بإمكانية الوصول الاقتصاديّ والعدالة الاجتماعيّة وتعزيز المرونة والتعافي في مرحلة ما بعد الجائحة.
يمكن القول إنّ من أهمّ ميزات المشروع قابليّتُه للتوسّع وقدرتُه على التكيّف، ما يجعله نموذجاً قابلاً للتطبيق في مدنٍ وبلداتٍ أخرى تواجه تحدّياتٍ مماثلة، وخاصةً في سياق التعافي من الجائحة.
المراجع: