يبدو أنّ المركبات ذاتية القيادة هي مستقبل النقل. قناعةٌ توصّلت إليها دول آسيوية عدّة أبرزُها كوريا الجنوبية والصين واليابان، وكلٌّ منها تعمل بدأب لتغيير شكل منظومة النقل عبر إجراء التجارب وسنّ التشريعات وتطوير التقنيات.
تغيّر التكنولوجيا الذكية معاييرَ الحياة، فتملي على الناس سبل معيشتهم وتنقلهم وعملهم وعلاقتهم بما حولهم. وعلى الطرق، منحت هذه التكنولوجيا إدراكاً جديداً للنقل، من مساعدة السائق على القيادة إلى استبداله كلياً.
مفهوم المركبات ذاتية القيادة جديدٌ نسبياً، لكنّه معروفٌ للجميع، فهذه المركبات تستطيع استشعار البيئة المحيطة والتحرّك دون تدخّل بشريّ، أو بالحدّ الأدنى منه. وتنقسم الآن إلى 3 فئاتٍ رئيسية، وهي السيارات الخاصة والمشتركة (أي سيارات الأجرة) والحافلات. لكن، لكي في الواقع، فإنّ منظومة نقلٍ عام تعتمد بالكامل على الحافلات ذاتية القيادة قد لا تخلو من الشطط، فهي تعني وضع الأرواح في أيدي تقنيةٍ لم تكتمل بعد، وما تزال عاجزةً عن التأقلم مع ظروف السير المختلفة، ولم تحقِّق بعدُ معاييرَ الأمان المطلوبة، ناهيك عن البنى التحتية المكلفة التي تحتاجها والأيدي العاملة المؤهلة التي ستخسر وظائفها إذا ما حلّت الآلة محلّها.
لكنّ الأثر البيئي الإيجابيّ الذي سيحقّقه هذا الحلم إذا تحقق يستحق المحاولة، وذلك طبعاً بعد تحقيق الشروط الثلاثة الرئيسية على الأقل، وهي التقنية والإطار التنظيمي وقبول الناس. وصوبَ هذا الهدف، بدأت حكومات عديدة إجراء التجارب لاختبار المفهوم وتطويره.
البداية من صاحبة الريادة، كوريا الجنوبية، إذ أطلقت حكومة العاصمة سيول أول خدمةٍ للحافلات التجارية ذاتية القيادة على نطاقٍ ضيق، حيث ستقتصر الرحلة على حوالي 3.5 كيلومتر تتوقّف خلالها في محطتين ولا تُقِلّ أكثر من 7 ركاب يستطيعون حجز مقاعدهم عبر تطبيق ذكي. وستتحرك الحافلة، التي ستُقِلّ الركاب مجاناً خلال الفترة الأولى، بسرعةٍ منخفضةٍ ضمن منطقة سياحية وتجارية مزدحمة في مركز المدينة.
تحقّق هذه الحافلات المستوى الرابع من القيادة الذاتية، بمعنى أنّ برمجياتها تستطيع تولّي زمام الأمور. لكن حرصاً على السلامة، سيبقى السائق موجوداً ليتولى القيادة في الأجزاء المزدحمة حيث ينتشر المشاة والشاحنات والدراجات النارية. وتتضمّن الحافلة 12 كاميرا و6 أجهزة استشعار تدرس حالة الطريق وإشارات المرور، وهي تقدّم تجربة سياحية عبر نوافذ كبيرة وفتحة سقف تتيح للركاب الاستمتاع بمعالم المدينة.
بميزانية تقارب 900 مليون دولار، تحثّ كوريا بقطاعَيها الحكوميّ والخاص الخطى لتحقيق طموحها بنشر المركبات ذاتية القيادة على كلِّ طرقها بحلول العام 2026، ومن بينها 400 حافلة وسيارة أجرة.
أما التجربة الثانية، فكانت في الصين التي تبذل حكومتها جهوداً حثيثة للتعاون مع القطاع الخاص والمبتكِرين وتشجيع المستهلكين. وينصبّ تركيز وزارة النقل الصينية على صوغ السياسات ووضع الإرشادات الوطنية، ذلك أن معيار النجاح الأول لديها هو الأمان والبيئة المنظّمة. وبعد أن سمحت بعمل عشرات الحافلات وسيارات التوصيل وأول سيارة أجرة ذاتية القيادة بالكامل، تخطِّط الآن لنشر الحافلات ذاتية القيادة على طرقٍ مغلقةٍ خاصةٍ بها، والسماح لسيارات الأجرة بالعمل في الشوارع الأكثر أماناً ورقابة.
مؤخراً، عدّلت الحكومة الصينية قانون السلامة المرورية، بحيث يضع معايير إلزاميةً للمركبات على الطرق السريعة وفي الشوارع التي تختارها الحكومة المحلية. ولعلّ أهمّ ما يقدّمه التشريع الجديد هو تحديد المسؤولية عن المخالفات والحوادث المرورية في حال كانت هذه المركبات طرفاً فيها، فالأخيرة مُجهّزةٌ بأنظمة مراقبةٍ حية وقادرةٍ على تسجيل البيانات لدقيقة ونصف على الأقل قبيل وقوع حادث أو فشل في النظام. وهذه الميزة شرط لمنح تصريح الاختبار.
كما أضافت بعض المدن تفاصيل أخرى وفق خصوصيتها، كمدينة تشونغتشينغ التي لا تسمح للحافلات بالتحرك دون وجود سائق أمان، والتي أنشأت مركز قيادةٍ يتلقّى المعلومات من أجهزة الاستشعار والكاميرات الموزّعة عبر المدينة لضمان سير النظام بأفضل شكل ممكن. أما مدينة قوانغتشو مثلاً، فاشترطت أن يكون ركاب الحافلات العامة راشدين وأصحاب سلوكٍ حضاريّ، فهي تستعد لنشر 260 مركبة ذاتية القيادة على طرقها العامة قبل نهاية العام الجاري، وتحاول في مشاريعها التجريبية تغطية مجالاتٍ عدةً كالشحن ونقل البضائع والخدمات اللوجستية ونقل الحاويات في الموانئ وغيرها.
تتشابه هذه التجربة مع تلك التي يشهدها مطار العاصمة اليابانية، فبعد 4 سنواتٍ من الاستعدادات، ستبدأ الحافلات ذاتية القيادة من المستوى الرابع بنقل الركاب ضمن منشأة المطار، معتمِدةً على شبكةٍ من الكاميرات وأجهزة الاستشعار وأجهزة التتبُّع، وعلى تجاربَ مطوَّلةٍ لأنواع مختلفة من المركبات المستقلة قطعت حوالي 130 ألف كيلومترٍ دون أيّ حادثة، ليقع الاختيار النهائيّ على حافلةٍ تتسع لـ 14 راكب، وتستخدم نظام تحديد المواقع العالميّ ونظاماً احتياطياً يواظب على مسح الطريق أمام الحافلة ليتولّى القيادة في حالة فشل النظام الرئيسيّ. وستنضمّ هذه الحافلة إلى 4 سياراتٍ تقوم بدورياتٍ في محيط المطار و12 عربةً تجرّ حاويات الأمتعة، وكلُّها تعمل بالبطارية، على أمل أن يتضاعف عددُها لتتولّى جميع العمليات الأرضية بحلول العام 2030.
تبدو كلّ هذه الطموحات بعيدةً، قياساً لارتفاع تكاليف البنى التحتية والمركبات نفسها والمخاطر الأمنية المرتبطة بها وفرص العمل الكثيرة التي ستلغيها.
كما أنّ توفر التكنولوجيا والإطار التنظيميّ يبقى غير كافٍ ما لم يتقبّل الناس هذه النقلةَ على نطاقٍ واسع. وهذا ما سيتحقّق في مرحلةٍ متقدّمة مع زيادة عدد هذه المركبات وتطوُّر التقنيات التي تشغِّلها واجتيازها للتحديات الفنية لكي يقتنع الناس بفوائدها.
على المدى البعيد، من شأن الحافلات ذاتية القيادة ترقيةُ منظومة النقل، لا سيما في المدن الكبرى وذات الطابع العالمي، حيث تستطيع تسهيل حركة النقل العام وجعلها أكثر أماناً وتخفيف الازدحام والانبعاثات، ما قد يجعلها فعلاً مستقبل النقل.
المراجع:
https://www.chinadaily.com.cn/a/202209/28/WS63340a01a310fd2b29e7a426_1.html