في إطار عملية قوامها التعاون والتنسيق مع السكان المحليين، تستشرف مدينة "لاس كونديس" التشيلية مستقبل المدن الذكية، محاولة الارتقاء بحياة سكانها وتعزيز رحلة تحولها الرقمي عبر إطلاق مركز "حاضنة البيانات"، لضمان مستويات الأمان والرفاهية والاستدامة، بفضل القدرة على جمع البيانات وإدارتها من منصة واحدة.
تحتاج إدارة المدن الذكية إلى اعتماد أحدث التقنيات الناشئة، وجمع كميات هائلة من البيانات وتخزينها في أماكن آمنة. والأهم من ذلك، تمكين الجهات المختصة من الوصول إلى هذه البيانات بسهولة، لاستثمارها لما فيه مصلحة المجتمعات ورفاهيتها.
قد تفشل المدن في تحقيق رؤاها نظراً لغياب عامل الابتكار، ونسخ التجارب العالمية السابقة، والرغبة في تحقيق الأهداف خلال مدة زمنية قصيرة، كما تتخطى السياق الثقافي والاجتماعي للسكان لتحقيق أهدافها وتنفيذ خططها المستقبلية، دون أي اعتبار لهوية الأحياء والمجتمعات التي تعيش فيها.
تتقاطع حالة مدينة لاس كونديس التشيلية مع كثير من هذه العوامل، فقد واجهت خلال رحلة تطوُّرها عدة تحديات كندرة المياه وارتفاع معدل الجريمة وتردي جودة الهواء والاكتظاظ المروري وارتفاع نفقات شبكة الإنارة العامة في المدينة، ناهيك عن أنّ أيّة محاولةٍ للتغيير كانت تصطدم برغبة السكان بالحفاظ على الهوية الأصيلة لمدينتهم، مع مطالبتهم بمستويات رفاهيةٍ أعلى في آنٍ معاً.
لهذا، رفعت المدينة شعار "لاس كونديس، مدينة أفضل للجميع"، وانطلقت في العام 2018 لتصبح إحدى أهم المدن الذكية في العالم، هادفةً إلى تعزيز مستويات الراحة والأمان لـ300 ألف قاطنٍ من أبنائها والوافدين إليها.
صوب هذا الهدف، تعاونت سلطات المدينة مع عدة جهات حكومية وشركات خاصة ومزوِّدين للخدمات التكنولوجية لإرساء بنى تحتيةً متقدّمة، ورسّخت التقنيات الحديثة كإنترنت الأشياء والبيانات الضخمة في آليات عملها، ونشرت شبكةً من أجهزة الاستشعار الذكية تجمع بياناتٍ ذكيةً ومفصّلةً حول الحركة المرورية ونسبة التلوث والوضع الأمنيّ في عموم المدينة.
بدايةً، طوّرت المدينة منظومة ذكية لإنارة الطرقات، تتصل بمحطة "سيرو دومينادور"، أول وأكبر محطة للطاقة الشمسية المركزة في أمريكا اللاتينية. وتشمل المنظومة أكثر من 45 ألف مصباحٍ ثنائيٍّ باعثٍ للضوء، يتصل بأجهزة استشعارٍ تتابع حالة الطقس والنور الطبيعيّ واحتياجات كلِّ حيٍّ على حدة.
ومن هنا، انتقلت السلطات إلى الخطوة الثانية، إذ لم تعد وظيفة أجهزة الاستشعار مقتصرةً على تحديد الحاجة للإضاءة، بل تعدّت ذلك إلى جمع المعلومات من مختلف الشوارع والأحياء. معلومات من قبيل حرارة الجو وجودة الهواء ومستويات الضوضاء والحالة الأمنية. لذا صار لِزاماً توسيع الشبكة لتضمَّ اليومَ 19 ألف كاميرا مزوَّدةٍ ببرامج مخصصة لتحليل التصرفات والتحركات الدالة على احتمالية وقوع الجرائم أو أعمال الشغب أو السلوكيات المشبوهة، والتي يصلُ عددُها إلى 51 حالة، لرصدِها وإخطار السلطات الأمنية من جهة، إلى جانب نمذجتها وبناء التوقّعات حول وتيرتِها وأماكن تركُّزها.
تُدار كلُّ هذه الأجهزة عبرَ شبكة المناطق اللاسلكية منخفضة الطاقة بعيدة المدى، والتي تتيح للأجهزة ذات قدرات المعالجة المحدودة أن تكون جزءاً من منظومة إنترنت الأشياء، وهي اليوم مرتبطةٌ بعشرات آلاف المصابيح وأكثر من ألف موقفٍ للسيارات و60 جهازاً لمراقبة حركة المرور وأكثر من 50 كشك ذكي للمعلومات و300 جهاز استشعار.
على مدار الساعة، تراقب هذه الأجهزة حركةَ المرور وتنقل البيانات إلى السكان عبر تطبيقٍ ذكيّ ومنصةٍ إلكترونية، فترشدهم إلى الطرق الأسرع والأقلّ ازدحاماً، وتخبرهم بحالة الطقس وجودة الهواء، ليتسنّى للمصابين بالأمراض المزمنة اتخاذ الاحتياطات اللازمة قبل مغادرة منازلهم.
تتصل هذه التجهيزات أيضاً بنظام الريّ عن بُعد المُستخدم لسقاية المساحات الخضراء باعتدال، والذي يرصد أيّ تسريب للمياه، أو أي انتشار للملوِّثات في النهر المحليّ الذي يغذّي المدينة.
ولجمع كلّ هذه البيانات في مركز واحد وتوفير الوصول المبكر إليها واستخدامها لأغراض التطوير والتخطيط والتنظيم، ستطلق المدينة قريباً مركزاً للمراقبة الحَضَرية، الذي وصفته بـ"حاضنة البيانات"، وهو الأول من نوعه في البلاد، وسيكون تتويجاً للجهود السابقة وأساساً تُبنى عليه البرامج الاجتماعية وبرامج السياسة العامة.
أشاعَ تنامي هذه الشبكة موجة من التخوف لدى السكان، الذين توقعوا استخدامها لانتهاك خصوصياتهم والاحتفاظ ببياناتهم الشخصية والاستفادة منها لأغراض أخرى أو توفيرها لجهات ثالثة، إلى جانب قلقهم من أن تقضي التقنيات الناشئة على هوية مدينتهم، ما دفع المسؤولين لطمأنتهم بأن استخدامها سيقتصر على المساحات العامة، ولأغراض تعزيز مستويات السلامة والأمن، وتحسين خطط التنظيم المستقبلية، وبأنّ السكان سيبقون دوماً جزءاً من عملية اتخاذ القرار بما يضمن الحفاظ على طابع مدينتهم.
تستشهد السلطات بما حقّقته منظومة الإنارة الذكية والنظيفة من تخفيض للبصمة الكربونية وتوفير في نفقات الطاقة بلغ 25%، تحوّلت إلى استثماراتٍ في مشاريع متنوعة ترتبط بالاستدامة.
كما تأمل السلطات أن يدعم هذا النظام مسيرتها صوب التحوّل الرقمي، وأن تساعدها هذه المنظومات الذكية في اتخاذ قرارات أكثر وضوحاً واستنارة واتخاذ إجراءات تصب في مصلحة الجميع وبما يتوافق والشعار المستدام للمدينة.
وعلى مستوى أعمق، سيعني هذا أن تصبح المدينة مثالاً يُحتذى على مستوى تشيلي وأمريكا اللاتينية وحتى العالم،
فهي ستكون منصة اختبار حية، توفر للمهتمين القدرة على استكشاف مزايا هذا النظام، وبالتالي توسيع نطاق استخدامه، نظراً لأهميته في تسريع مسار النمو الذي تشهده المدن الذكية، ودفع عجلة التنمية الاقتصادية القائمة على المعرفة في العالم، وتحسين حياة البشر بالإجمال.
المراجع: