انطلقت خلال السنوات الماضية مبادرات في عدد من الدول تسعى إلى استثمار التقدم الحاصل في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وتقنيات الدفع الإلكتروني، في جمع خدمات وسائط النقل المختلفة على منصة واحدة، توفر للمستهلكين سهولة غير مسبوقة في التخطيط لرحلاتهم، واختيار وسائل النقل التي تناسبهم، والحجز، وشراء التذاكر– ضمن ما أصبح يطلق علية تسمية "التنقل كخدمة". لكن هذه التجارب لا زالت في بداياتها، وهي محدودة النطاق بشكل عام نظراً لمجموعة من التحديات. في المملكة المتحدة، حيث تم إطلاق أكثر من مبادرة في هذا المجال، أصدرت الحكومة مؤخراً مدونة ممارسات خاصة بمفهوم وتطبيقات "التنقل كخدمة" كمرجع للمعايير والإرشادات التي تتوافق مع توجهات وطموحات الحكومة لمشهد التنقل في المملكة، خاصة من جهة المحافظة على الشمول المجتمعي، وضمان نفاذ كل فئات المستخدمين للخدمة.
يوفر "التنقل كخدمة" (MaaS) كامل الحرية للمستهلك، والقدرة على التحكم في تنظيم تنقلاته ورحلاته، خاصة تلك التي تتطلب وسيلتي نقل أو أكثر، لتتناسب مع جدوله الزمني وميزانيته ورغباته. وبصورته المثالية يشمل المفهوم معظم وسائط النقل المتوفرة في المدينة أو المقاطعة أو الدولة، سواء أكانت حكوميةً أو خاصةً، وبمختلف أنواعها من قطارات وحافلات وسيارات أجرة وسيارات مؤجرة ودراجات هوائية وكهربائية وقوارب عبور وغيرها. هذا يعني أن تتوفر على المنصة جداول الرحلات الخاصة بكل مشغل لوسيلة تنقل، مع تحديثاتها الفورية، ما يتطلب ربط النظم المختلفة الخاصة بكل طرف بمنصة "التنقل كخدمة"، وهذا يمثل بحد ذاته تحدياً تكنولوجياً معقداً.
والتحدي المهم الآخر هو مسألة تسعير التذاكر، والمشاركة في الإيرادات بين مشغلي وسائط التنقل، ومزودي التكنولوجيا القائمة عليها منصة "التنقل كخدمة"، والسلطات المحلية التي تستقطع ضريبة مباشرة أو غير مباشرة على بيع التذاكر.
أما التحديات الأخرى التي تتعلق بإطار العمل، وتصميم وعرض محتوى منصة "التنقل كخدمة" لكي تفي بالغرض الذي أنشئت من أجله على أفضل صورة، وتتماشى مع الرؤية المستقبلية للتنقل في المملكة المتحدة، فهي من اهتمامات الحكومة التي بدأت تتبلور في العام 2019 مع إصدار "الاستراتيجية الحضرية لمستقبل التنقل"، التي تقوم على ثلاث ركائز: سهولة النفاذ إلى الخدمات، والشمول، وتوفر الخدمات لجميع فئات المجتمع.
ساهمت الاستراتيجية في البدء بتطوير أول منصة لـ "التنقل كخدمة" في العام 2020 في بريطانيا، ضمن مشروع "منطقة التنقل المستقبلي" في منطقة "سولنت"، وهو مشروع طموح يسعى إلى اختبار مقاربات جديدة في التنقل والعمل اللوجستي، بتمويل من دائرة النقل بلغت قيمته 29 مليون جنيه إسترليني (نحو 47 مليون دولار). تتمثل رؤية المشروع في تطوير تطبيق فائق يمكّن المستخدمين في منطقة "سولنت" من حجز أي نوع من التذاكر على جميع وسائط النقل، ومختلف أنواع الرحلات، دون الحاجة إلى زيارة موقع كل مزود خدمة على الإنترنت. وقد تم إصدار نسخة أولية من التطبيق تقتصر على عدد محدود من الخيارات ووسائط التنقل، لغرض الاختبار وتحديد نقاط الضعف. كما أعلنت مؤخراً إدارة النقل في مقاطعة ويست ميدلاندز عن خطة مماثلة توفر للمستهلك الراحة، والقدرة على تفصيل الرحلات حسب حاجته، وبتكلفة أقل.
واستكمالاً لاستراتيجيتها المستقبلية، قامت الحكومة البريطانية مؤخراً بإصدار مدونة الممارسات الخاصة بـ"التنقل كخدمة"، تحتوي على 34 توصية لضمان مراعاتهم لعدة اعتبارات، أهمها المحافظة على الشمولية، والأمان، وتوفير إمكانية النفاذ لجميع فئات المستخدمين. وتحثّ المدونة مطوري المنصات ومؤسسات النقل على العمل الاستباقي لجذب مشاركة المستهلكين من ذوي الاحتياجات الخاصة، ودمج وظائف وميزات ضمن منصات "التنقل كخدمة" تساعد على سهولة النفاذ، بالإضافة إلى العمل على تلبية حاجات الفئات الضعيفة اقتصادياً واجتماعياً.
تشجع المدونة أصحاب العلاقة على الترويج لوسائط النقل المستدامة من خلال نشر المعلومات حول فوائدها الصحية في الحد من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وأيضاً تقديم النصح بفوائد ركوب الدراجات الهوائية، والمشي. كما توصي المدونة بأهمية الاستفادة من التجارب العالمية في هذا المجال، خاصة دراسات الحالة، التي تساهم كثيراً في توجيه وتطوير منصات "التنقل كخدمة".
تحرص الحكومة على عدم التسرع في فرض لوائح تنظيمية في الوقت الحاضر، نظراً لتأثيرها في الحد من الابتكارات المحتملة التي من شأنها الارتقاء بمنصات "التنقل كخدمة" في المرحلة القادمة. عوضاً عن ذلك، فإنّ المدونة والمشاريع التي تبنى حولها ستساعد الحكومة في تطوير القواعد التنظيمية التي ستحكم أنشطة منصات "التنقل كخدمة" في المستقبل.
تولي المدونة اهتماماً كبيراً بأن تراعي المنصة جميع متطلبات أصحاب الهمم وسلامتهم، ما يشمل نشر المعلومات حول المسارات والمحطات المناسبة التي تتوفر فيها مرافق ملائمة لاستخدام الكراسي المتحركة، أو أن يقترح التطبيق مساراتٍ بديلةً للوجهة المقصودة تتوفر فيها تلك المرافق. وفيها توصيات تتعلق بتصميم واجهة استخدام المنصة، من جهة مراعاة احتياجات المستخدمين المكفوفين والذين يعانون من ضعف البصر، مع التشديد على ضرورة أن توفر المنصة إمكانية الحجز لخدمة مساعدة الركاب من أصحاب الهمم في الانتقال بين وسائط المواصلات المختلفة.
ولم تنس المدونة أيضاً أن توصي بضرورة التعامل مع البيانات الحساسة بشكل جيد ودقيق، وإجراء اختبارات مشددة للخوارزميات المستخدمة في التطبيق لإزالة أي نوع من أنواع التحيز ضد أي فئة من المستخدمين.
فيما يتعلق بالتحديات، يمكن القول إن التعاون الوثيق بين الأطراف المعنية، والتخطيط لتبسيط العمليات، والعمل الحثيث على كسب ثقة جميع فئات المستخدمين، هي كفيلة بتذليل العقبات.
تتمثل أهم للدروس المستفادة من تجربة المملكة المتحدة في الأولوية التي يجب أن تمنح لسهولة النفاذ إلى الخدمات، وشمول مختلف فئات المستخدمين، بالإضافة إلى التشجيع على استخدام الوسائط المستدامة، والتعلم من تجربة الغير.
المراجع:
• https://www.intelligenttransport.com/transport-articles/135891/developing-uk-first-multi-city-maas-platform/
• https://www.gov.uk/government/publications/mobility-as-a-service-maas-code-of-practice/mobility-as-a-service-code-of-practice#ambition
• https://www.smartcitiesworld.net/mobility-as-a-service/mobility-as-a-service/uk-government-launches-mobility-as-a-service-code-of-practice-9308