تمثّل ظاهرة ارتفاع درجات الحرارة الحاد في المدن تهديداً لصحة السكان وجودة حياتهم. لذا تسعى الحكومات إلى اعتماد طرائق مبتكرة لاحتواء هذه الظاهرة، بدءاً من إرشاد الناس للاحتماء منها كما في ملبورن السويسرية[SA1] ، مروراً بإنشاء المساحات الخضراء لتبريد المدينة وكسر حدة التلوّث كما في باريس الفرنسية، وليس انتهاءً بتركيب مظلّات تقي الناس حرّ الشمس كما في إشبيلية الإسبانية.
أصبح تغيير المناخ أحد أكثر التحديات بروزاً لما له من أثر بالغ على صحة الكوكب والحياة التي تسكنه. ومع التغييرات المناخية التي يشهدها العالم، سجّل علماء الأرصاد الجوية أرقاماً قياسيةً في شدة العواصف وغزارة الفيضانات وقسوة الجفاف، والأهم، ارتفاع درجات الحرارة وزيادة ملحوظة لموجات الحرارة الشديدة.
لا يوجد إجماع عالمي حول تعريف الموجات الحرارية وذلك لارتباطها بمناخ منطقة معينة وقدرة قاطنيها على التكيف معها، ولكن هذه الموجات تُعرف بشكل عام على أنها فترات ترتفع فيها درجات الحرارة فوق المألوف مسببة تبعات بيئية وصحية. قد تستمر الموجات الحرارية لعدّة أيامٍ أو حتى أسابيع، وتترافق غالباً مع رطوبة شديدة، فتهدّد صحةَ الناس وحيواتِهم، وتضرّ بالنُّظّم البيئية النباتية والحيوانية المحيطة بهم.
يسرد مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها العديد من المشكلات الصحية التي قد تسبّبها الموجات الحرارية، بدءاً من الإجهاد الحراريّ إلى ضربة الشمس وعجز الجسم عن التحكّم بحرارته الذاتية وحتى الأمراض التنفسية، ما قد يسبّب الوفاة أو العجز الدائم. وعلاوةً على ذلك، فإنّ بعض الفئات المجتمعية معرّضة لهذا أكثر من غيرها، كالأطفال والمسنّين والمصابين بأمراض مزمنة ومحدودي الدخل والعاملين في الهواء الطلق.
ومع ارتفاع نداءات الاستغاثة لإيجاد مخرجٍ من هذا المأزق، برزت بعض التجارب الساعية لمواجهته. كانت أولى هذه التجارب في بلدٍ ذي تاريخٍ بالتعامل مع البيئات القاسية، ألا وهو أستراليا، حيث تشهد مدينة ملبورن مشروعاً رائداً هو حصيلة تعاون مجلس المدينة مع شركةٍ خاصةٍ تنشط في دراسات المناخ. ويسعى الشريكان لتطوير أداة لرسم خرائط للمخاطر الحرارية لاستخدام بياناتها في تخطيط الاستجابات، وإدماج البيانات المباشرة لحالة الطقس والمناخ بالمعطيات المجتمعية مثل أماكن وجود الفئات الأكثر عرضة للخطر.
تتعرض ملبورن إلى ارتفاع درجات الحرارة وزيادة احتمالية حدوث حرائق البراري والغابات التي كبدت أستراليا خسائر باهظة في الأرواح والممتلكات والحياة البرية.
ولتركيز الجهود نحو تعزيز دفاعات ملبورن ضد الموجات الحرارية، استحدث مجلس المدينة منصبَ "مسؤول الحرارة" المعنيّ بتطوير حلول المقاومة وصوغ استراتيجيات التواصل مع المجتمع، فأصبحت بذلك المدينة السادسة في العالم والأولى في أستراليا في تعيين هذا المنصب.
سبق لسلطات المدينة ومؤسساتها البحثية أن أجرت الدراسات لتتبُّع هذه الظاهرة، ومدى علاقتها بنِسَب دخول المستشفيات وأعداد الوفيات اليومية، ومقارنتها بالتوقّعات الجوية التي تشير إلى أن تواتر الموجات الحرارية سيصل إلى 16 موجةً سنويةً قبل انتصاف القرن.
تبلغ مخاطرُ الموجات الحارة ذروتَها في المدن التي تعاني ظاهرةً أخرى تُسمى "تأثير الجزيرة الحرارية الحَضَرية"، والتي سُميت انطلاقاً من النظرية القائلة بأنّ المدن أكثر حرارة من غيرها بسبب أسطُحِها المُعبَّدة بمواد كتيمةٍ كالخرسانة، والتي تمتصّ حرارة النهار لتحرِّرَها خلال الليل، ما يسبّب حالةً دائمةً من ارتفاع الحرارة في غياب الغطاء النباتيّ.
ولذلك يدير مجلس المدينة مبادرةً خضراء، حيث زرع أكثر من 3 آلاف شجرة، كما يقوم بتحويل ما يقرب من 2500 طنٍّ من النفايات العضوية إلى سماد بمشاركة 23 ألف أسرةٍ محلية.
أما في العاصمة الفرنسية باريس، اتجه المجلس المحليّ إلى إنشاء أكثر من 800 موقع مما يسميه "شبكات المساحات الباردة"، التي تشمل الحدائق والمنتزهات وأحواض السباحة والمتاحف ذات الغطاء الأخضر، محدداً استراتيجيته في توزيع هذه المساحات على المدينة، بحيث يمكن لكلّ مواطنٍ أينما كان مسكنُه الوصول إلى واحدةٍ منها في غضون 7 دقائق.
وحرصاً على هذه النقطة بالذات، طوّرت المدينة تطبيقاً خاصاً بالخرائط لإرشاد المقيمين إلى أقرب نقطةٍ يمكنهم التوجّه إليها هرباً من ارتفاع درجات الحرارة، مع لمحةٍ عن الموقع وساعات عمله وما إذا كان قيد الصيانة مثلاً. كما تخطّط باريس لزراعة 170 ألف شجرة جديدة بحلول العام 2026.
في إشبيلية الإسبانية التي يجلب صيفُها درجات حرارةٍ تصل إلى 40 درجة مئوية ومئات آلاف السياح، تبنّى مجلس المدينة ما أسماه "سياسة الظل"، إذ تعاقد منذ التسعينات مع متعهّدين من القطاع الخاص لوضع مظلّات حماية فوق شوارع المدينة ذات الطابع التاريخيّ والتراثيّ، لتظلّل المارة وتقيهم أشعة الشمس الحارقة. فيما اتبعت السلطات مؤخراً منهجية جديدة، وذلك من خلال منحها عقداً جديداً لشركة خاصة بميزانية تقارب المليون يورو لتركيب مظلات جديدة تحتفظ بملكيّتها وكذلك بمهام صيانتها. كما عملت على مضاعفة أعداد النوافير في الساحات العامة، وزيادة كثافة الغطاء الأخضر، حيث يحرص المجلس البلديّ على زراعة 5 آلاف شجرةٍ سنوياً، ويسعى لإحداث تحول تدريجيّ في قطاع البناء عبر استخدام المواد العاكسة للحرارة.
في حين تسعى ملبورن إلى تعزيز مرونة المجتمع في وجه تغيّر المناخ، ستقدّم باريس لمواطنيها نافذةً أبرد بمقدار يتراوح من 2 إلى 4 درجات مئوية، يتنفّسون فيها الهواء النقيّ، كاستراحةٍ من نمط الحياة الباريسيّ المحموم.
بدورها تهدف إشبيلية إلى تقديم تجربة أكثر راحة للسياح وحياة أكثر صحة للمواطنين وسياسة أكثر استدامة لمواجهة الارتفاع المستمر في درجات الحرارة.
المراجع:
- https://www.unep.org/news-and-stories/story/heatwaves-blanket-europe-cities-turn-nature-solutions
- https://www.weforum.org/agenda/2022/08/cities-heatwaves-climate-solutions/
- https://resilientmelbourne.com.au/wp-content/uploads/2019/05/LivingMelbourne_Strategy_online.pdf
- https://www.cdc.gov/climateandhealth/pubs/extreme-heat-final_508.pdf
- https://onebillionresilient.org/who-we-are/
- https://theconversation.com/melbourne-now-has-chief-heat-officers-heres-why-we-need-them-and-what-they-can-do-192248
- https://www.smartcitiesworld.net/climate-action/melbourne-develops-tool-to-combat-rising-temperatures-8835
- https://www.c40knowledgehub.org/s/article/Cities100-Paris-is-using-blue-and-green-infrastructure-to-tackle-city-heat?language=en_US
- https://www.bloomberg.com/news/articles/2022-08-18/one-of-europe-s-hottest-cities-has-a-climate-change-battle-plan?cmpid=BBD082022_GREENDAILY&utm_medium=email&utm_source=newsletter&utm_term=220820&utm_campaign=greendaily#xj4y7vzkg
[SA1]الأسترالية؟