تسخير التثقيف الرقمي للتحقق من الأخبار في فنلندا

تسخير التثقيف الرقمي للتحقق من الأخبار في فنلندا

1 دقيقة قراءة
ما أفضل الوسائل لتتصدى الحكومات للتهديدات المتصاعدة لما بات يسمى بـ"عصر ما بعد الحقيقة"، الذي تشكل وسائل وتقنيات "الأخبار الزائفة" المتعمدة أحد أهم أعراضه؟
شارك هذا المحتوى

أضف إلى المفضلة ♡ 0

ما أفضل الوسائل لتتصدى الحكومات للتهديدات المتصاعدة لما بات يسمى بـ"عصر ما بعد الحقيقة"، الذي تشكل وسائل وتقنيات "الأخبار الزائفة" المتعمدة أحد أهم أعراضه؟

اختارت فنلندا، الرائدة في الابتكار في القطاع التعليمي، التوعية والتعليم كوسيلة لمواجهة التهديدات المتزايدة التي تشكلها الأخبار الزائفة على سلامة المجتمعات، فوضعت استراتيجية واسعة بهذا الشأن، بعدما أدى الوضع السياسي إلى استهدافها  لأول مرة بقصص إخبارية مزيفة.

لا يشكل التضليل الإعلاميّ تحد جديد. فبثّ الأخبار الكاذبة أسلوب اتّبع منذ آلاف السنين تحت مسمّى "الحرب النفسية"، واستمر استخدامه طوال التاريخ حتى زمن الحروب العالمية ومن ثم الحرب الباردة خلال القرن الماضي، ومازال يستخدم حتى يومنا هذا.

بيد أنّ خطورة الأخبار الزائفة المتعمدة تصاعدت مع انتشار الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي تحديداً، وما ترافق معها من تحديات مزدوجة تتمثل في صعوبة التحقق من المصداقية والانتشار المتسارع خلال المجتمع. لذا أدت هذه الأخبار إلى وجود تهديد ذي تأثير سلبي مدمّر على المجتمعات، وعلى مختلف جوانب الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، من أسعار الأسهم، والتعامل مع الكوارث، مروراً بالانتخابات، وصولاً إلى الاضطرابات الاجتماعية. إلى أن تحول هذا التحدي إلى معضلة حقيقية خلال جائحة كوفيد-19، جعلت وطأة تفشي الوباء أسوأ فأسوأ، بعد أن انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي معلومات مضللة ومغلوطة عن طبيعة الفيروس، ونصائح حول سبل مكافحته، وفعالية التطعيم ضده، كان لها أثرها الضار على الصحة والسلامة العامة.

وإزاء تفشي ظاهرة الأخبار الزائفة، تصاعدت في السنوات الأخيرة مشاعر القلق لدى الحكومات في جميع أنحاء العالم، التي دأبت تبحث عن سبلٍ لمواجهة هذا الوضع، وتباينت رؤاها ومنهجياتها في ذلك، فلجأت بلدان، منها ألمانيا وفرنسا، إلى أسلوب سنّ القوانين والتشريعات والعقوبات لمكافحة الأخبار الزائفة، فيما اتجهت دولٌ أخرى منها فنلندا نحو أسلوب التعليم والتوعية.

في الواقع، وجدت فنلندا نفسها على خط المواجهة في حرب المعلومات بعد أن تم استهدافها لأول مرة بقصص إخبارية مزيفة متعمدة، هددت مجتمعاتها بأعراض "عصر ما بعد الحقيقة". وبإدراك الحكومة الفنلندية أن هجوم المعلومات الكاذبة التي تهدّد المجتمعات والحكومات في جميع أنحاء العالم لا يمكن إيقافه على ما يبدو، وجدت أنّها أمام تحدٍّ يمنحها فرصة تثقيف مواطنيها، بدءاً من سنّ مبكرة في حياتهم. ليس من خلال التركيز على استخدام التكنولوجيا المتقدمة والبيانات الضخمة أو خوارزميات الذكاء الاصطناعي، بل بالنظر إلى داخل المجتمع، وترسيخ خط الدفاع الأول، كما تراه فنلندا، المتمثّل في التعليم ضمن الصفوف الدراسية. لذا بدأت الحكومة بتعليم الطلاب منذ سن مبكرة على مهارات التفكير النقدي، والتدقيق على المعلومات التي يقرؤونها، مثل تحديد مصداقية مصادر المعلومات، والتفكير في النتائج التي يمكن أن تنشأ من مشاركة معلومات معينة. الهدف هو تسليح الطلاب بأدوات ومهارات "التثقيف الرقمي"، عند خوضهم عالم الإنترنت المليء بتطبيقات الوسائط الاجتماعية التي، رغم فوائدها العديدة، يتفشى فيها الكثير من أعراض عصر ما بعد الحقيقة، والتي تتيح سهولة مشاركة المعلومات ونشرها .

ففي المدارس الثانوية، أصبحت الثقافة المعلوماتية، ومهارات التفكير النقدي، مكوناً أساسياً متعدد الموضوعات، في جميع مواد المنهج الدراسي الوطني الذي اعتمد في فنلندا منذ العام 2016. كما دخل القطاع التعليمي متمثلاً بالمدارس مؤخراً في شراكة مع وكالة FactBar الفنلندية للتدقيق على المعلومات، من أجل تطوير وسيلة تدريبية لزيادة التثقيف الرقمي لتلاميذ المرحلة الابتدائية والثانوية. حيث تحدد FactBar ثلاثة مجالات يتعيّن التنبّه لها: المعلومات الخاطئة وغير الدقيقة التي تحتوي على أخطاء قد لا تكون مقصودة (misinformation)؛ والمعلومات المغالِطة والمخادعة بشكل متعمد بهدف إلحاق الضرر (disinformation)؛ والمعلومات المضللة أو المشوهة التي تستند جزئيا على حقائق لكنها تشوه بهدف إلحاق أضرار بأفراد أو مجموعات (malinformation).

وتشمل التدريبات التي يتلقاها الطلاب التدقيق في فيديوهات يوتيوب ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي، ومراقبة التحيز من خلال مجموعات تهدف أساساً إلى جذب الانتباه غالباً عبر التلاعب بالمشاعر والغرائز وتشجيع الزائرين على الضغط على رابط صفحة الكترونية معينة. كما تشمل التدريبات على تلمّس الأذى الذي تلحقه الأخبار الخاطئة في مشاعر القراء، وتصل حتى تدريبات يعمل فيها الطلاب على تجريب كتابة أخبار مزيفة بأيديهم.

والسؤال هنا لماذا اختارت فنلندا التعليم كوسيلة للتصدي للأخبار الكاذبة؟ يجادل البعض بأن مجرد التثقيف الإعلامي وتعليم التفكير النقدي لا يكفي، بل يجب فعل المزيد من جانب شركات التواصل الاجتماعي لوقف انتشار المعلومات الزائفة والمضللة. فيما يرى البعض الآخر أن أسلوب سنّ القوانين لمكافحة الأخبار المزيفة، فيه تهديد لحرية التعبير، ويشدد أصحاب هذا الرأي على أن الأسلوب الفنلندي القائم على التعليم والتوعية يشكل حلاً أفضل وأكثر استدامة.

أظهرت دراسة لـ"معهد المجتمع المفتوح" وجود علاقة إيجابية بين مستوى التعليم والمعرفة ومهارات التفكير النقدي من جهة، والمناعة ضد الأخبار المزيفة والمعلومات الخاطئة من جهة أخرى.  ولعلّ أبرز مؤشرات نجاح فنلندا في الحرب على الأخبار المزيفة هي حقيقة أن دولاً أخرى باتت تسعى إلى نسخ وتطبيق "النموذج الفنلندي". فقد توافد ممثلو عدد كبير من دول الاتحاد الأوروبي، ومن سنغافورة، للتعلم من نهج فنلندا في التعامل مع هذا التحدي. واليوم تعدّ فنلندا والسويد وهولندا من بين الدول التي نجحت في تعليم أطفال المدارس أساليب محو الأمية الرقمية والتثقيف الرقمي ومهارات التفكير النقدي للكشف عن المعلومات الخاطئة.

تتصدر هذه الدولة الاسكندنافية اليوم قائمة الدول الأوروبية الأكثر مناعة في مواجهة المعلومات المضللة، وفق مؤشر الوعي الإعلامي الذي أعدّه معهد المجتمع المفتوح، فيما حلّت الدنمارك في المرتبة الثانية، تليها هولندا والسويد وأستونيا. وجاءت مقدونيا وتركيا وألبانيا في آخر القائمة.

كما أنّ فنلندا تعد ضمن  قائمة الدول المتقدمة في المؤشرات التنموية، كالسعادة وحرية الصحافة والمساواة بين الجنسين والعدالة الاجتماعية والشفافية والتعليم، مما يجعل من الصعب على الجهات الخارجية العثور على فجوات داخل المجتمع لاستغلالها.

المراجع:

https://www.weforum.org/agenda/2019/05/how-finland-is-fighting-fake-news-in-the-classroom/

https://osis.bg/wp-content/uploads/2018/04/MediaLiteracyIndex2018_publishENG.pdf

http://rm.coe.int/information-disorder-report-version-august-2018/16808c9c77

اشترك في منصة ابتكر لتبقَ على اطلاع على أحدث المبادرات والمساقات والأدوات والابتكارات الحكومية
قم بالتسجيل
اشترك في النشرة الإخبارية لمنصة ابتكر
القائمة البريدية للمبتكرين
تصل نشرتنا الإخبارية إلى أكثر من 30 ألف مبتكر من جميع أنحاء العالم!
اطلع على النشرة الإخبارية لدينا لتكون أول من يكتشف الابتكارات الجديدة و المثيرة و الأفكار الملهمة من حول العالم التي تجعلك جزءاً من المستقبل.
Subscription Form (#8)
المزيد من ابتكر

الرقمنة نحو مجتمع أفضل: الدروس المستفادة من التجربة المكسيكية

على الرغم من كونها عاصمة لأحد أكبر اقتصادات العالم وتمتعها بتاريخ عريق، تواجه مكسيكو سيتي تحديات صعبة من ضمنها الفقر والاكتظاظ السكاني. وفي ظل البيروقراطية وعدم المساواة الاجتماعية السائدة تبدو التحديات كبيرة والحلول مستعصية. لكن بوادر التغيير، وإن كانت بطيئة، بدأت بالظهور بفضل جهود الوكالة الرقمية للابتكار العام التي تشكل تجربتُها حالةً نموذجية تسلط الضوء على أهمية الدعم السياسي والمالي، وتعاون مختلف الدوائر الحكومية، لتوفير خدمات حكومية رقمية فعالة تساهم في تحسين نوعية حياة سكان المدينة.

 · · 18 سبتمبر 2024

التكنولوجيا الخضراء: مبادرة سنغافورة للارتقاء بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات نحو الاستدامة

يعدّ أثر تكنولوجيا المعلومات والاتصالات على تغير المناخ ضئيلاً نسبياً حين مقارته بمصادر الانبعاثات الكربونية الرئيسية كالمواصلات والأنشطة الصناعية والبشرية الأخرى التي تستخدم الوقود الأحفوري بكثافة. لكن مع نمو الطلب على هذا القطاع وبنيته التحتية، من المتوقع أن ترتفع كثيراً مساهمته التي تقدر اليوم بين %1.8 و%4 من مجمل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري عالمياً، لتبلغ نحو %14 بحلول العام 2040، ما يجعله مصدر قلق متنامٍ لكافة الدول الساعية للحد من آثار تغير المناخ. في مواجهة هذا التحدي، أطلقت سنغافورة التي تتميز باستخدامها المكثف لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات مبادرة شاملة وطموحة تستهدف خفض معدل الانبعاثات الناتجة حالياً عن هذه التكنولوجيا بمعدل %50 بحلول العام 2030، تماشياً مع الأهداف العالمية في هذا المجال.

 · · 18 سبتمبر 2024

استخدام مبتكر للبيانات لدعم صنّاع القرار في قطاع الصحة الكندي

شكلت جائحة كوفيد-19 تحديا عالميا غير مسبوق، وكشفت عن نقاط ضعف في صنع السياسات وأنظمة الرعاية الصحية أدت إلى أوجه قصور في إدارة الأزمات. غير أن بعض البلدان لجأت إلى نهج مبتكرة ساعدت على التخفيف من أثر الأزمة وأثبتت جدارتها في أن تصبح جزءا من آليات دعم التأهب لحالات الطوارئ الصحية في المستقبل. كانت كندا واحدة من هذه البلدان ، حيث تبنت البيانات الضخمة لتتبع حركة السكان لإبلاغ عملية صنع القرار في مواجهة COVID-19.

 · · 22 أغسطس 2024

"التنقل كخدمة": الحكومة البريطانية تجمع كل وسائل النقل على منصة واحدة

انطلقت خلال السنوات الماضية مبادرات في عدد من الدول تسعى إلى استثمار التقدم الحاصل في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وتقنيات الدفع الإلكتروني، في جمع خدمات وسائط النقل المختلفة على منصة واحدة، توفر للمستهلكين سهولة غير مسبوقة في التخطيط لرحلاتهم، واختيار وسائل النقل التي تناسبهم، والحجز، وشراء التذاكر– ضمن ما أصبح يطلق علية تسمية "التنقل كخدمة". لكن هذه التجارب لا زالت في بداياتها، وهي محدودة النطاق بشكل عام نظراً لمجموعة من التحديات. في المملكة المتحدة، حيث تم إطلاق أكثر من مبادرة في هذا المجال، أصدرت الحكومة مؤخراً مدونة ممارسات خاصة بمفهوم وتطبيقات "التنقل كخدمة" كمرجع للمعايير والإرشادات التي تتوافق مع توجهات وطموحات الحكومة لمشهد التنقل في المملكة، خاصة من جهة المحافظة على الشمول المجتمعي، وضمان نفاذ كل فئات المستخدمين للخدمة.

 · · 22 أغسطس 2024

توظيف أجهزة الاستشعار الذكية في بيانات إدارة الطرق

مع تقدم التكنولوجيا في مجال الكاميرات الذكية، وأجهزة الاستشعار، ونقل للبيانات، والذكاء الاصطناعي، بدأت بعض المدن الكبرى بالنظر في استغلال هذه التقنيات مجتمعةً في حل المشاكل الناجمة عن حركة المرور على الطرق الداخلية والمحيطة بها. من أبرز الجهود المبتكرة في هذا المجال مشروعان تجريبيان أطلقهما مؤخراً كل من مجلس مدينة ولينغتون، عاصمة نيوزيلندا، ودائرة النقل في مدينة نيويورك في الولايات المتحدة.

 · · 23 يوليو 2024
magnifiercrossmenuchevron-downarrow-right