ما أفضل الوسائل لتتصدى الحكومات للتهديدات المتصاعدة لما بات يسمى بـ"عصر ما بعد الحقيقة"، الذي تشكل وسائل وتقنيات "الأخبار الزائفة" المتعمدة أحد أهم أعراضه؟
اختارت فنلندا، الرائدة في الابتكار في القطاع التعليمي، التوعية والتعليم كوسيلة لمواجهة التهديدات المتزايدة التي تشكلها الأخبار الزائفة على سلامة المجتمعات، فوضعت استراتيجية واسعة بهذا الشأن، بعدما أدى الوضع السياسي إلى استهدافها لأول مرة بقصص إخبارية مزيفة.
لا يشكل التضليل الإعلاميّ تحد جديد. فبثّ الأخبار الكاذبة أسلوب اتّبع منذ آلاف السنين تحت مسمّى "الحرب النفسية"، واستمر استخدامه طوال التاريخ حتى زمن الحروب العالمية ومن ثم الحرب الباردة خلال القرن الماضي، ومازال يستخدم حتى يومنا هذا.
بيد أنّ خطورة الأخبار الزائفة المتعمدة تصاعدت مع انتشار الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي تحديداً، وما ترافق معها من تحديات مزدوجة تتمثل في صعوبة التحقق من المصداقية والانتشار المتسارع خلال المجتمع. لذا أدت هذه الأخبار إلى وجود تهديد ذي تأثير سلبي مدمّر على المجتمعات، وعلى مختلف جوانب الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، من أسعار الأسهم، والتعامل مع الكوارث، مروراً بالانتخابات، وصولاً إلى الاضطرابات الاجتماعية. إلى أن تحول هذا التحدي إلى معضلة حقيقية خلال جائحة كوفيد-19، جعلت وطأة تفشي الوباء أسوأ فأسوأ، بعد أن انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي معلومات مضللة ومغلوطة عن طبيعة الفيروس، ونصائح حول سبل مكافحته، وفعالية التطعيم ضده، كان لها أثرها الضار على الصحة والسلامة العامة.
وإزاء تفشي ظاهرة الأخبار الزائفة، تصاعدت في السنوات الأخيرة مشاعر القلق لدى الحكومات في جميع أنحاء العالم، التي دأبت تبحث عن سبلٍ لمواجهة هذا الوضع، وتباينت رؤاها ومنهجياتها في ذلك، فلجأت بلدان، منها ألمانيا وفرنسا، إلى أسلوب سنّ القوانين والتشريعات والعقوبات لمكافحة الأخبار الزائفة، فيما اتجهت دولٌ أخرى منها فنلندا نحو أسلوب التعليم والتوعية.
في الواقع، وجدت فنلندا نفسها على خط المواجهة في حرب المعلومات بعد أن تم استهدافها لأول مرة بقصص إخبارية مزيفة متعمدة، هددت مجتمعاتها بأعراض "عصر ما بعد الحقيقة". وبإدراك الحكومة الفنلندية أن هجوم المعلومات الكاذبة التي تهدّد المجتمعات والحكومات في جميع أنحاء العالم لا يمكن إيقافه على ما يبدو، وجدت أنّها أمام تحدٍّ يمنحها فرصة تثقيف مواطنيها، بدءاً من سنّ مبكرة في حياتهم. ليس من خلال التركيز على استخدام التكنولوجيا المتقدمة والبيانات الضخمة أو خوارزميات الذكاء الاصطناعي، بل بالنظر إلى داخل المجتمع، وترسيخ خط الدفاع الأول، كما تراه فنلندا، المتمثّل في التعليم ضمن الصفوف الدراسية. لذا بدأت الحكومة بتعليم الطلاب منذ سن مبكرة على مهارات التفكير النقدي، والتدقيق على المعلومات التي يقرؤونها، مثل تحديد مصداقية مصادر المعلومات، والتفكير في النتائج التي يمكن أن تنشأ من مشاركة معلومات معينة. الهدف هو تسليح الطلاب بأدوات ومهارات "التثقيف الرقمي"، عند خوضهم عالم الإنترنت المليء بتطبيقات الوسائط الاجتماعية التي، رغم فوائدها العديدة، يتفشى فيها الكثير من أعراض عصر ما بعد الحقيقة، والتي تتيح سهولة مشاركة المعلومات ونشرها .
ففي المدارس الثانوية، أصبحت الثقافة المعلوماتية، ومهارات التفكير النقدي، مكوناً أساسياً متعدد الموضوعات، في جميع مواد المنهج الدراسي الوطني الذي اعتمد في فنلندا منذ العام 2016. كما دخل القطاع التعليمي متمثلاً بالمدارس مؤخراً في شراكة مع وكالة FactBar الفنلندية للتدقيق على المعلومات، من أجل تطوير وسيلة تدريبية لزيادة التثقيف الرقمي لتلاميذ المرحلة الابتدائية والثانوية. حيث تحدد FactBar ثلاثة مجالات يتعيّن التنبّه لها: المعلومات الخاطئة وغير الدقيقة التي تحتوي على أخطاء قد لا تكون مقصودة (misinformation)؛ والمعلومات المغالِطة والمخادعة بشكل متعمد بهدف إلحاق الضرر (disinformation)؛ والمعلومات المضللة أو المشوهة التي تستند جزئيا على حقائق لكنها تشوه بهدف إلحاق أضرار بأفراد أو مجموعات (malinformation).
وتشمل التدريبات التي يتلقاها الطلاب التدقيق في فيديوهات يوتيوب ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي، ومراقبة التحيز من خلال مجموعات تهدف أساساً إلى جذب الانتباه غالباً عبر التلاعب بالمشاعر والغرائز وتشجيع الزائرين على الضغط على رابط صفحة الكترونية معينة. كما تشمل التدريبات على تلمّس الأذى الذي تلحقه الأخبار الخاطئة في مشاعر القراء، وتصل حتى تدريبات يعمل فيها الطلاب على تجريب كتابة أخبار مزيفة بأيديهم.
والسؤال هنا لماذا اختارت فنلندا التعليم كوسيلة للتصدي للأخبار الكاذبة؟ يجادل البعض بأن مجرد التثقيف الإعلامي وتعليم التفكير النقدي لا يكفي، بل يجب فعل المزيد من جانب شركات التواصل الاجتماعي لوقف انتشار المعلومات الزائفة والمضللة. فيما يرى البعض الآخر أن أسلوب سنّ القوانين لمكافحة الأخبار المزيفة، فيه تهديد لحرية التعبير، ويشدد أصحاب هذا الرأي على أن الأسلوب الفنلندي القائم على التعليم والتوعية يشكل حلاً أفضل وأكثر استدامة.
أظهرت دراسة لـ"معهد المجتمع المفتوح" وجود علاقة إيجابية بين مستوى التعليم والمعرفة ومهارات التفكير النقدي من جهة، والمناعة ضد الأخبار المزيفة والمعلومات الخاطئة من جهة أخرى. ولعلّ أبرز مؤشرات نجاح فنلندا في الحرب على الأخبار المزيفة هي حقيقة أن دولاً أخرى باتت تسعى إلى نسخ وتطبيق "النموذج الفنلندي". فقد توافد ممثلو عدد كبير من دول الاتحاد الأوروبي، ومن سنغافورة، للتعلم من نهج فنلندا في التعامل مع هذا التحدي. واليوم تعدّ فنلندا والسويد وهولندا من بين الدول التي نجحت في تعليم أطفال المدارس أساليب محو الأمية الرقمية والتثقيف الرقمي ومهارات التفكير النقدي للكشف عن المعلومات الخاطئة.
تتصدر هذه الدولة الاسكندنافية اليوم قائمة الدول الأوروبية الأكثر مناعة في مواجهة المعلومات المضللة، وفق مؤشر الوعي الإعلامي الذي أعدّه معهد المجتمع المفتوح، فيما حلّت الدنمارك في المرتبة الثانية، تليها هولندا والسويد وأستونيا. وجاءت مقدونيا وتركيا وألبانيا في آخر القائمة.
كما أنّ فنلندا تعد ضمن قائمة الدول المتقدمة في المؤشرات التنموية، كالسعادة وحرية الصحافة والمساواة بين الجنسين والعدالة الاجتماعية والشفافية والتعليم، مما يجعل من الصعب على الجهات الخارجية العثور على فجوات داخل المجتمع لاستغلالها.
المراجع:
https://www.weforum.org/agenda/2019/05/how-finland-is-fighting-fake-news-in-the-classroom/
https://osis.bg/wp-content/uploads/2018/04/MediaLiteracyIndex2018_publishENG.pdf
http://rm.coe.int/information-disorder-report-version-august-2018/16808c9c77