بعد سنواتٍ من مكافحة ظاهرة التشرّد، بدأت بعض الحكومات المحلية في بريطانيا وأمريكا بالنظر إلى القضية من زاويةٍ مختلفة. وبدلاً من البحث عن المتشرّدين في الشوارع لنقلهم إلى الملاجئ، باتت تستخدم النمذجة وتحليلات البيانات للتنبّؤ بأولئك المُهدَّدين بالتشرّد ومساعدتهم قبل أن يخسروا أمانَهم.
بين المعاجم والتصنيفات الحكومية وأجندات منظّمات المجتمع المدنيّ، قد يجد المرء تعريفاتٍ مختلفةً لظاهرة التشرّد، بحسب اللغة والظروف الاجتماعية والاقتصادية والمعايير الثقافية والغرض من التعريف.
وتصعب الإحاطة بتجربة التشرّد برمتها، فهي لا تقتصر على الحرمان من المأوى بالمعنى الماديّ. ولصياغة تعريفٍ حقيقيّ، لا بدّ من التفكير بتفاصيل لا تنتهي، من فقدان الاتصال الاجتماعيّ والشعور بالانتماء إلى النبذ والجريمة.
لعقود، حاولت حكومات الدول المختلفة– متقدِّمةً ونامية– مقاربة هذا التحدي الذي يزيدُه واقعُنا المعاصر حدّة، مع تغيّر المناخ وانتشار الفيروس التاجيّ. هذه النقطة بالذات سبّبت زيادةً هائلةً في أعداد المتشرّدين في كلٍّ من بريطانيا والولايات المتحدة، فحتى كبرى المدن لم تكن محصّنةً من ظاهرة المخيّمات العشوائية التي فاقمها التضخّم الاقتصاديّ.
لكنّ أياً من تلك المحاولات لم تفلح بإيجاد حلٍّ نهائيّ، إما لأنّها لم تمنح هذه القضية الاهتمامَ الكافي، أو لكونها لم تدرك الأثر المَهول الذي سيُحدِثُه حلُّها، وفي أفضل السيناريوهات، لم تمتلك البيانات أو الموارد، أو لم تحسِن إدارتَها ومشاركتَها، وربما ما تزال تتَّبِع آلياتٍ تقليديةً في تقديم الخدمات الاجتماعية، ما يطيلُ أَمَدَها ويزيدُ تعقيدَها.
تبقى الثغرة الأكبر في هذه الأنظمة أنّها تنشغلُ بالنتائج فتُغفِل الأسباب، بمعنى أنّ الكثير من الحكومات المحلية لا تدرك أنّ شخصاً ما يواجه خطرَ التشرّد حتى يفترشَ الرصيف، أي بعد أن يفوت أوان التدخُّل الذي كان ليحولَ دون تشريده.
اليوم، تقدّم التكنولوجيا للحكومات والمنظّمات الإنسانية فرصة صياغة مفهومٍ جديدٍ في التعامل مع التشرّد، وهو ببساطةٍ استباق المشكلة عبر استخدام التحليلات التنبؤية التي تحدّد المواطنين المعرّضين لفقدان مساكنهم.
احتضنت المملكة المتحدة تجربةً مبكِّرةً لهذا المفهوم، تمت بأيدي فريق مجلس مدينة ميدستون مع عدة شركاء، حيث تعاون الجميع لتطوير أداة بياناتٍ تحمل اسم "ون ڤيو"، التي تعني "نظرة واحدة"، وتقدِّم نهجاً وقائياً في تقديم الرعاية الاجتماعية. ويخطط مجلس المدينة حالياً لإدماج نظامه مع نظيره المُعتمد في بلدية كِنت لبناء فهمٍ أعمق وأشمل للواقع في المنطقة ككل.
ما تقوم به الأداة هو جمع البيانات المتفرِّقة الموجودة في أرشيف مجلس المدينة، كالدفعات والأقساط التي سُدِّدَت أو لم تُسدَّد، أو المواطنين المتقدّمين بطلبات المعونة السكنية، ثم تحلّل كلّ هذه المعطيات لتحدِّدَ الأشخاص أو الأُسَر الأكثر ضعفاً، وتصدرَ إنذاراتٍ مبكِّرةً لتوجيه الكيانات المعنية بمساعدتهم قبل فوات الأوان.
تجربةٌ مشابهة خاضتها سلطات مدينة ساوث بِند بولاية إنديانا الأمريكية بالتعاون مع جامعة نوتردام، حيث جمع الشريكان بياناتٍ حول إنفاذ القانون والتأخّر في تسديد الإيجارات وعمليات الإخلاء والإعسار والإفلاس والرهن العقاريّ، وتحويل كلّ هذه المُدخلات إلى نموذجٍ ذكيٍّ يصدر نتائج عالية الدقة.
أما في لوس أنجليس، طوّر باحثو جامعة كاليفورنيا أداةً تجمع البيانات من 8 كياناتٍ حكومية، فتعرِف مثلاً أعداد من أُدخل المستشفيات أو السجون أو واجه مشكلات نفسية أو تلقّى إعانات نقدية أو عينية أو خدمات حكومية مجانية، وبناء على هذه المعلومات، استطاع فريق العمل تطوير خوارزمية تضمّ ما لا يقلّ عن 500 ميزة.
لكنّ جمع البيانات ليس بالمسعى السهل، فالحصول على بعض المعلومات– كالقضائية مثلاً– قد يمثّل تحدياً، ناهيك عن أنّ أيّ خطأٍ في إدخالها سيؤدي إلى نموذجٍ غير واقعيّ وغير عمليّ.
كما أبرزت التجارب الأمريكية تحدياً آخر، وهو أنّ العديد من عمليات إخلاء المنازل لا تمرّ عبر المحاكم ولا تُوثَّق بأيّة بيانات. لهذا، صُمِّمَ مشروعٌ يركّز على فواتير المياه، فهي العنصر الذي لا يمكن الاستغناء عنه، وحين يعجز أحدهم عن تسديد فاتورة المياه، فعلى الأرجح أنّه يواجه ضائقةً مالية ويحتاج تدخّل الحكومة.
بالطبع، كان تحدي حماية البيانات بانتظار الفكرة، خاصةً أنّ الحكومات تختلف عن المؤسسات الخاصة والمستقلة بقدرتها على الوصول إلى مختلف البيانات واستخدامها. وفي الحالة البريطانية، ارتأى مجلس ميدستون تصميمَ أداةٍ تحصر الوصول إلى البيانات الشخصية للفرد بموظّفٍ محدّدٍ مسؤولٍ عن حالته.
وهنا، يبرز تحدٍّ آخر، فدون تعاون الموظّفين ودعمهم، لن تنجح هذه المشاريع، لذلك يجب أن تركّز المنصات على الموظّفين وتضعهم في صورة المشروع بالكامل بغاياته وخطواته.
عموماً، لا يمكن للبيانات أن تحلّ المشكلة بمفردها، وينبغي للتطوّر التكنولوجي أن يترافق بترقية آليات العمل وتدريب الموظّفين الميدانيين على التعامل مع الأفراد المُستضعَفين بطريقةٍ تجمع المرونة والمهنية والإنسانية في آنٍ معاً.
في ميدستون، أصدرت أداة تحليل البيانات أكثر من 650 إنذاراً، واستطاعت إبقاء 99.6% من المعنيين في منازلهم، وهذه قفزةٌ هائلة مقارنة بالطريقة التقليدية التي عجزت عن مساعدة 40% من المعرَّضين لخطر التشرّد. كما ساعدت الأداة الحكومة، خلال أزمة كوفيد-19، في إنقاذ 100 أسرة من التشرّد، وخفّضته بنسبة 40%. وفي خزينة المجلس، ادُّخِر 2.5 مليون جنيه استرلينيّ، مبلغٌ سيُستثمَر في خدمات رعاية اجتماعية أخرى، وهذا خير استثمارٍ لوقت الموظّفين أيضاً، فقد وفّر هؤلاء بدورهم 61 يوم عمل.
تقدّم هذه الأدوات لوكالات الخدمة الاجتماعية بياناتٍ قيمةً تستند إليها لتساعد السكان أو ترشدهم للحصول على المساعدة، فتبقيهم في مساكنهم وتقيهم واحدةً من أقسى التجارب البشرية. أما عند إغلاق المصدر الذي يولِّد سنوياً أعداداً متزايدةً من المتشرّدين، فستوفّر الحكومات تكاليف أعمالٍ كثيرةً كبناء الملاجئ وإدارتها.
المراجع:
- https://www.govx.digital/data/how-predictive-analytics-reduced-homelessness-by-40
- https://www.ey.com/en_ae/government-public-sector/how-can-data-stop-homelessness-before-it-starts
- https://www.smartcitiesdive.com/news/cities-predict-homelessness-analytics/635242/
- https://www.latimes.com/california/story/2022-06-12/homeless-prevention-unit
- https://cities-today.com/cities-are-looking-at-data-differently-to-fight-homelessness/