مع تقدم التكنولوجيا في مجال الكاميرات الذكية، وأجهزة الاستشعار، ونقل للبيانات، والذكاء الاصطناعي، بدأت بعض المدن الكبرى بالنظر في استغلال هذه التقنيات مجتمعةً في حل المشاكل الناجمة عن حركة المرور على الطرق الداخلية والمحيطة بها. من أبرز الجهود المبتكرة في هذا المجال مشروعان تجريبيان أطلقهما مؤخراً كل من مجلس مدينة ولينغتون، عاصمة نيوزيلندا، ودائرة النقل في مدينة نيويورك في الولايات المتحدة.
شكلت حركة المرور منذ عدة عقود تحدياً مستعصياً على عدة مستويات، خاصة في المدن الكبيرة والمتنامية، سواء على مستوى ازدحام السير وأثره في هدر الوقت، ما ينعكس سلباً على حياة السكان واقتصاد المدينة وجاذبيتها، أو على صعيد التلوث البيئي والضوضائي، أو غيرها. في ذات الوقت تتطلب عملية التخطيط الحضري الجيد لشبكات الطرق، والإدارة الفعالة لحركة المرور، ورفع مستوى السلامة على الطرق، مجموعة بيانات يتعذّر الحصول عليها من خلال استخدام الوسائل والتقنيات التقليدية المعتمدة لغاية اليوم، مثل جمع البيانات عن عدد ونوع المركبات السائرة على الطريق خلال فترة معينة باستخدام الرادار أو أنابيب الهواء الممتدة عبر الطريق، أو العدّ اليدوي– هذا عدا أن هذه الأساليب مكلفة، ولا توفر إلا بيانات محدودة وعلى نطاق ضيق.
الأدوات المبتكرة المطروحة اليوم أمام السلطات المعنية بالتخطيط الحضري، التي تجمع عدة تقنيات حديثة، قادرة ليس على معالجة تلك التحديات فحسب، بل وإحداث طفرة نوعية في قطاع النقل والمواصلات، لها أثرها الإيجابي على مختلف الأنشطة البشرية والاقتصادية. فهي توفر مرونة غير مسبوقة في إدارة حركة المرور على مستوى اتخاذ القرارات الاستباقية والتدخلات المحددة الغرض للتعامل الفوري مع أي تغير في حركة المرور أو الأوضاع الطارئة. تشمل هذه التقنيات الواعدة أجهزة استشعار مدمجة بكاميرات عالية الدقة، توفر بيانات يتم تحليلها فورياً باستخدام الذكاء الاصطناعي، ليتم اتخاذ القرارات اللازمة.
تستعد ولينغتون من جهتها لخوض تجربتها الخاصة مع هذه التقنيات من خلال إطلاق شبكة رصد مرورية مركزية متقدمة تجمع البيانات بشكل مستمر من الطرق وتحدثها وتحللها بشكل مباشر، للمساهمة في اتخاذ القرارات المرورية المستندة إلى الأدلة بطريقة فعالة من حيث التكلفة. ستحل هذه الشبكة محل العدادات الآلية واليدوية المستخدمة حالياً، التي ساهمت في وضع الخطوط العريضة للتحليلات على الأمد الطويل، لكنها قصرت عن توفير تصور معمق وشامل للمشهد المروري بسبب محدوديتها على صعيد التغطية الجغرافية وإمكانياتها.
يستخدم النظام التجريبي أجهزة استشعار متضمنة في كاميرات ذكية صغيرة الحجم، يتم تثبيتها على أعمدة الإنارة، تعمل بمثابة عدّاد لجميع مستخدمي الطرقات في الوقت الحقيقي، إضافة إلى تصنيفهم ضمن فئات تشمل المشاة، والدراجات الهوائية والكهربائية والنارية، والحافلات، والشاحنات والمركبات الأخرى. كما ترصد هذه الكاميرات، التي تلتقط الصور الثابتة ومقاطع الفيديو، مسار وسرعة كل مستخدم للطريق ضمن مجال رؤيتها. ومن خلال سلسة الكاميرات المتتالية يمكنها تتبع حركة سير كل مستخدم ومساره، وفترة توقفه على تقاطع الطرق، والأماكن التي ينعطف فيها. وللحفاظ على خصوصية مستخدمي الطرق، يعمل النظام على حذف البيانات الخاصة مباشرة بعد الحصول على البيانات الإحصائية لغرض التحليل، التي يتم نقلها مباشرة عبر الشبكة إلى الجهات المرورية في مجلس مدينة ولينغتون. تُقدّر تكلفة المشروع بنحو مليون دولار نيوزيلندي (590 ألف دولار أميركي) تنفق على مدى خمس سنوات.
الهدف العام من هذه البيانات هو مساعدة مجلس المدينة على تكوين صورة دقيقة لكيفية استخدام الطرقات والمسارات المخصصة من قبل كل فئة من الفئات في مختلف الأوقات، وإعداد تقييم لكيفية تنقلهم في أنحاء المدينة، ما يمكّن المجلس من رصد الأثر الناجم عن التعديلات التي يجريها على شبكة الطرقات في الوقت الحقيقي. كما ستساعد هذه البيانات والتحليلات المبنية عليها المجلس في الارتقاء بالسلامة العامة، واتخاذ قرارات واستعدادات أفضل للأحداث الكبيرة، وتلك التي لها أثر على قطاع البيع بالتجزئة والاقتصاد. هذا عدا عن المساهمة الكبيرة لتلك البيانات في تصميم الطرقات والتخطيط الحضري مستقبلاً.
أما في نيويورك، فقد أطلقت دائرة النقل برنامجاً مبتكراً مشابهاً يهدف إلى رفع مستوى السلامة ورصد كيفية استخدام السكان والمركبات لطرقات المدينة بشكل أفضل، لتمكين الإدارة الفعالة لحركة المرور والحد من ازدحام السير الخانق الذي تعرف به نيويورك. قام المشروع التجريبي بتركيب كاميرات ذكية مزودة بأنظمة استشعار في 12 موقع حول المدينة لجمع البيانات المرورية وإعداد التقارير الفورية التي سوف تساهم في إجراء تقييمات لمدى فعالية برامج السلامة الحالية وتصاميم الطرقات القائمة، كما ستساعد المسؤولين في تحديد الأولويات حول المواقع الأكثر حاجة لإجراءات السلامة، وتلك الأولى بالتعديلات للتخفيف من حدة الازدحامات. ومن خلال توفيرها لمعلومات حول أنماط تنقل السكان، مثل استخدامهم لمواقف الحافلات، ونقاط تحميل البضائع، والأماكن التي يترددون عليها أكثر من غيرها، ومسارات الدراجات التي يكثر استخدامها، يتمكن المسؤولون من تقديم خدمات أفضل. ومثلما هو الحال مع نظام الرصد في ولينغتون، يتم اتلاف الصور التي يمكن من خلالها التعرف على هوية السكان، حفاظاً على معايير الخصوصية.
بفضل هذه الشبكة، عندما يثبت نجاحها، سيتم الاستغناء عن الأساليب البالية والمكلفة في رصد حركة المرور التي تقتصر غالبيتها على مراقبة الطرق شخصياً من قبل الموظفين الميدانيين ورصدهم لعدد وفئات المركبات يدوياً، أو من خلال مراقبتهم لكاميرات الفيديو الثابتة. وهي ممارسات محدودة في نتائجها وأوقاتها وتغطيتها الجغرافية. تعمل الشبكة على رصد وقياس عناصر حركة المرور بشكل مشابه للنظام الجديد في ولينغتون، لكن ما يتميز به عنه هو أن مدينة نيويورك تعتزم جعل شبكتها مفتوحة المصدر، ما يساعد في توسيع نطاق التعاون والابتكار مع أطراف خارجية.
تتشارك ولينغتون ونيويورك في استخدامهما المبتكر لتقنيات الاستشعار المتقدمة للتعامل مع تحديات حركة المرور، ولا شك أن تجربتهما والدروس المستفادة منها ستوفر فهماً أعمق لتلك التحديات، تساهم في تطبيقات مماثلة في مدن أخرى. والأهم هو التحديات التي تواجه هذه التطبيقات، وأهمها دمج البيانات على نظم مختلف الدوائر التابعة لمجلس المدينة، وضمان الخصوصية، والاشكالات الناتجة عن التعاقد مع مزودي الطرف الثالث للتكنولوجيا.
المراجع:
- https://wellington.govt.nz/parking-roads-and-transport/transport/traffic-counting-sensors
- https://wellington.govt.nz/news-and-events/news-and-information/our-wellington/2023/09/traffic-counting-sensors
- https://www.nyc.gov/html/dot/html/pr2023/dot-new-technology-improve-safety.shtml
- https://www.curbed.com/2023/04/nyc-dot-street-sensors-viva.html