تطلق هيئة الخدمات الصحية الوطنية في المملكة المتحدة مشاريع لتجنيب كبار السنّ مشقّة دخول المستشفيات لدى أيّ عارضٍ صحيٍّ، وذلك عبر التواصل الدائم بين طواقم الإسعاف والأطباء، لتقييم حالة المريض وتقديم الرعاية له في مكانه، أو عبرَ الأجنحة الطبية الافتراضية، التي تقدّم خدمات المستشفى نفسَها، لكن على سرير المريض. بعد تطبيقها واختبارها، حقّقت تلك المشاريع انخفاضاً ملحوظاً في ظاهرةٍ تكبّد المرضى والمنظومة الصحيّة الكثير.
مع التقدُّم بالعمر، تزدادُ حاجة الفرد للرعاية الخاصّة، فالشيخوخة مرحلة حسّاسة، ومعظم المسنّين يرغبون بدوام الصحة الجيّدة وبالحفاظ على حالة الاستقلالية الماديّة والمعنويّة، ناهيك عن تلبية متطلّباتهم التي قد تكون صعبةً وخاصةً في بعض الأحيان.
يعاني معظم المسنّين مشكلاتٍ صحيّةً متنوِّعة، وهذا بديهيّ، لكنّ الأعراض التي يمرّون بها، رغم كِثرتها وتواتُرِها، ليست دائماً خطيرة، ولا تتطلّب دخول المستشفى مثلاً، أو حتى رؤيةَ الطبيب، الأمر الذي يزيد حالتهم الصحية سوءاً بدلاً من أن يحسِّنها، فيعرِّضهم لخطر العدوى والتوتر والمضاعفات وإرهاق الرحلة والانتظار، ويربِك روتين حياتهم اليومية الذي عادةً ما يكون دقيقاً وحساساً جداً، خاصةً بالنسبة لمرضى الخَرَف. وفي حالاتٍ أخرى، يؤثّر الدخول إلى المستشفى على القدرات البدنية للمسنّين، فمكوثُهم الطويل على الأسرّة قد يؤدّي إلى ضمور عضلاتهم وثِقَل حركتهم ما يزيد احتماليّة سقوطِهم أو تعرّضِهم للأذى. كلّ ذلك دون ذكر الفواتير الباهظة التي يتكبّدونها عند دخول المستشفى. هذا تماماً ما يشهده قطاع الرعاية الصحية في المملكة المتحدة، لتكرار هذه الحالات التي تُثقِل كاهلَ كوادره وتهدُر ميزانيتَه. ووفقاً لدراسةٍ أُجريَت في العام 2018، بناءً على تحليل بيانات هيئة الخدمات الصحية الوطنية، تستقبل غرفُ الطوارئ في مستشفيات البلاد أكثر من ألفِ مسنٍّ دون داعٍ يومياً.
لذا، لا بدّ من حلٍّ مبتكرٍ للحدّ من مشهدِ مسنٍّ يدخل قسم الطوارئ لسببٍ لا يستحقّ، ويجب لهذا الحلّ أن يتضمّن شيئاً من الرعاية الاستباقيّة وشيئاً من التكنولوجيا.
تنبّهت الإدارة الصحية في منطقة شمال وسط لندن، والتابعةُ لهيئة الخدمات الصحية الوطنيّة (NHS) إلى هذا التحدّي، فكلّفت مجلس الرعاية المتكاملة بتصميم خطةٍ لمقاربته.
في العام 2022، وافق المجلس على مبادرةٍ لإطلاق برنامج "الفرز الفضّيّ" الذي يجمع صندوقَي خدمة الإسعاف في لندن وهيئة الخدمات الصحية الوطنية، والذي اختيرَ اسمه لأنّ مصطلح "الفضّة" يُستخدم غالباً للإشارة إلى الأشخاص المتقدّمين في السنّ في إشارة إلى لون الشعر الشائب.
يفتح البرنامج خطوط التواصل بين الأطبّاء المتخصّصين بأمراض الشيخوخة وطواقِم الإسعاف الأوّليّ عبر رقم هاتفٍ واحد، حيث يشرح المسعِفون حالةَ المريض الراهنة وخلفيّتَه الطبيّة المختصرة والتقييم الأوّلي والإجراءات المُقترحة ليقدّم لهم الأطباء المشورة، كما يستطيعون مساعدة المسنّين في الوصول إلى الخدمات المجتمعيّة إذا لم يكن المريض في حاجة إلى زيارة المستشفى.
تأتي هذه المبادرة كجزءٍ من جهودٍ كبرى تقودها هيئة الخدمات الصحية الوطنية، وتتضمّن مشاريعَ أخرى، كمشروع "العنابر الافتراضية"، التي تساعد في مراقبة كبار السن ممن يعانون مشاكل صحيّةً من خلال أجنحةٍ افتراضيةٍ تبقيهم خارج المستشفى، فهي "افتراضيّة" لأنّها ليست أسرّة مستشفى حقيقيّة، بل هي فكرة إيصال خدمات المستشفى إلى سرير المريض.
يُدار "العنبر الافتراضيّ" وفق نظامِ المستشفيات، وقوامه فريقُ عملٍ كالّذي قد يوجد في أيّ قسمٍ ضمن أيّ مستشفى، فيقدّم الرعاية اللازمة للمسنّين حيث يعيشون، سواء في المنزل أو في دور الرعاية، بأمانٍ وسهولةٍ ودون أن يُضطروا للتعرّض إلى تجربة المستشفى المرهِقة.
استمدّ هذا المشروع الإلهام من مفهومٍ ابتكره صندوق كرويدون للرعاية الأولية في جنوبيِّ لندن مطلعَ القرن العشرين، وطوّر الفكرة مستفيداً من التكنولوجيا المتاحة اليوم، حيث يُنظر في البداية في حالات المرضى الأكثر عرضةً لدخول المستشفى، ليتم تحويلُهم إلى الجناح الافتراضيّ أو إدخالهم إلى وحدات العناية المركّزة، وحين يتحسّن مريضٌ ما، تبحث الخوارزمية التنبؤية عن المريض التالي.
ككلّ التجارب الجديدة، واجه هذا المشروع العديد من التحدّيات، أوّلها القدرة التمويليّة والتشغيليّة، حيث لا تتوفّر هذه الخدمات خارج ساعات الدوام المكتبيّة، أي من التاسعة صباحاً إلى الخامسة مساءً، ثم جاء تحدٍّ آخر، وهو تحديد من يستطيع الوصول إلى النظام، فلا يمكن أن يُتاح استخدامُه لكلِّ أفراد فِرَق الإسعاف من سائقين وغيرهم، لذا ظلّ استخدامُه محصوراً بالمسعفين. أما التحدّي الأكثر حساسيّةً، فهو تحديد من يتحمّل المسؤولية السريريّة عن المرضى المستفيدين من هذه الخدمة، ليستقرّ القرار على صندوق مؤسسة وسط وشمال غرب لندن لكونِها الجهة الرائدة في تقديم خدمة "الفرز الفضيّ".
سجّلت حالات دخول المسنّين إلى المستشفيات انخفاضاً من 75 بالمئة في العام 2018 إلى 20 بالمئة في العام 2023، كما أبدى 100 بالمئة من المسعِفين استعدادهم ورغبتهم بمواصلة استخدام النظام، مما يعني أنّه حقّق فعاليّة في توفير الاحتياجات للمسنّين في منازلهم أو دور رعايتهم وجنَّبَهم الزيارات غير الضرورية إلى المستشفيات، وهو ما يَعِد أيضاً بتوسيع نطاق البرنامج وإمكاناته ليخدِّم عدداً أكبر من المسنّين.
عبر إدماج الابتكار ونهج الرعاية الاستباقيّة والتكنولوجيا الحديثة، تأمل سلطات الرعاية الصحيّة أن تتمكّن من حماية المسنّين الأكثر ضعفاً، وتوفير نفقات تشغيل المرافق الصحيّة، وإدارة منظومةٍ تراعي احتياجات هذه الفئة الكبيرة وتخدمها بفعاليّة.
تؤكد هذه التجارب أهميةَ تصميم الخدمات بشكلٍ يُحسِنُ توظيفَ الموارد المتاحة ويفهم أدوار العاملين ومهاراتِهم ومعارفَهم، ويعرف كيف يربط بينها محافِظاً على الثقة والتعاون، ومستنداً إلى نظامٍ سلسٍ وسهل الاستخدام.
المراجع:
- https://www.cnwl.nhs.uk/news/providing-urgent-health-care-home-older-people-living-frailty
- https://www.nhsconfed.org/case-studies/providing-urgent-health-care-home-older-people-living-frailty
- https://www.ageuk.org.uk/latest-press/articles/2023/age-uk-issues-clarion-call-for-a-big-shift-towards-joined-up-home-and-community-based-health-and-social-care-services-for-older-people/#:~:text=In%202021%2F22%20there%20were,care%20at%20the%20right%20time.
- https://www.nhsconfed.org/publications/realising-potential-virtual-wards
- https://www.england.nhs.uk/integratedcare/resources/case-studies/older-people-living-with-frailty-on-virtual-ward-keeps-them-well-at-home-and-out-of-hospital/