فرضت بلدان كثيرة، في المراحل الأولى لجائحة كوفيد–19، قيوداً على التنقّلات غير الاضطرارية، سعياً منها إلى التخفيف من انتشار فيروس كوفيد-19. ونتيجة لذلك، شُلّت قطاعات السياحة وأصيبت بخسائر مادية فادحة، وفُقدت ملايين الوظائف. وعندما تحسنت الأوضاع بعد حين، عمدت الدول إلى رفع تلك القيود عن السيّاح وتنقّل العمّال وتبادل السلع. ونظراً إلى أن التدابير الوقائية العامة تتطلّب الحد من عدد المسافرين المصابين بالفيروس، لا تزال الطريقة المثلى أمام سلطات الحدود، لتأمين الحماية بشكل فاعل، هي إجراء اختبارات لجميع القادمين، وفرض الحجر الصحي على كل من تثبت إصابته وكل من خالطه. إلا أن هذه الطريقة لم تكن على مستوى التوقّعات بسبب ندرة موارد الاختبار، خلال صيف 2020. ولذلك، تحتّم على المعنيين إعادة النظر في السياسات المقترحة دولياً لمراقبة الحدود، والتي تعتمد فقط على البيانات العامة ولا تراعي المعايير الخاصة بكل بلد.
اليونان لم تكن استثناءً عن هذا الحال، حيث وضعت لائحة بالتحديات التي يتعيّن عليها مواجهتها تخفيفاً لانتشار عدوى كوفيد-19، والتي لا تختلف كثيراً عن غالبية البلدان الأخرى، ومنها ما يلي:
- عجز البنية التحتية لعملية الاختبار عند الحدود للتحقق من حالة كل مسافر بشكل واقعي.
- التكاليف الباهظة لتلك العمليات الشاملة والفترات الزمنية الطويلة لتنفيذها، ما يدفع معظم الدول إلى الاكتفاء بفحص المسافرين القادمين من بلدان معيّنة أو تنفيذ اختبارات عشوائية لتحديد المصابين بكوفيد-19.
- المصداقية المتدنية التي تتسم بها البيانات العامة للنتائج المعلَنة، وسببها الرئيسي اختلاف آلية الإبلاغ والإعلان عن الحالات وبروتوكولات الاختبار بين البلدان.
- التركيز فقط على فحص المصابين الذين يعانون من أعراض ظاهرة، لا يعطي نتائج دقيقة حول المعدل الواقعي لانتشار الفيروس بين السكان والمسافرين المصابين، حيث أن الكثير من الحالات لا تظهر فيها أية أعراض، فضلاً عن التأخّر في الإبلاغ بسبب ضعف البنية التحتية وآليات التواصل بين أركانها.
- التناقض في المعلومات الذي ينشأ عن أشكال من الرقابة تفرضها بعض الدول على نتائج الاختبارات، وعن الاختلاف في معايير تحديد كوفيد-19 كسبب للوفاة، وما يستجرّه من أخطاء في إحصاء الوفيات.
لذلك، برز خيار استخدام طريقة جديدة تعتمد على الذكاء الاصطناعي للتخفيف من انتشار كوفيد-19 بكشف مزيد من الإصابات عبر جمع نتائج الاختبارات وتحليلها سريعاً، فتضافرت في هذا الاتجاه جهود أكاديميين من جامعات أميركية ويونانية، منها جامعة بنسلفانيا وجامعة كاليفورنيا الجنوبية وجامعة ثيسالي وجامعة أثينا. وبالتعاون مع الحكومة اليونانية ودعمها نتج عنها نظامٌ حقق نتائج مشجّعة، يحمل اسم "إيفا"، نُشرت تفاصيله في تقرير تحت عنوان "تطبيق نظام الذكاء الاصطناعي لاختبار كوفيد-19 عند الحدود اليونانية".
ولكن كيف يعمل نظام "إيفا"؟ كخطوة أولى، يجب على جميع القادمين إلى اليونان أن يصرحوا عن معلوماتهم الديموغرافية قبل دخول البلد ب24 ساعة من خلال "استمارة تحديد موقع المسافر". من بعدها يقوم "إيفا" بالاستعانة بالذكاء الاصطناعي لرصد البيانات بالزمن الحقيقي. حيث يتلقى باستمرار نتائج الاختبارات التي تتجمّع في المراكز الحدودية باليونان، بهدف التقاط حالات الإصابة بكوفيد-19 بين المسافرين الوافدين من أنحاء العالم. تستخدم هذه البيانات في دراسة احتمال إصابة المسافرين القادمين إلى اليونان من خلال مطابقتها مع معلوماتهم الديموغرافية. وبالنتيجة تحدد خوارزميات نظام "إيفا" مجموعات من المسافرين يحتمل أن تكون إصابتهم بكوفيد-19 كبيرة مقارنة بغيرهم، وتبعاً يطلب منهم أن يجروا فحوصات PCR مخبرية للكشف عن العدوى. وبهذا الأسلوب يساعد النظام على الحد من انتقال الإصابات إلى الداخل واحتواء تفشّي الوباء في البلاد.
وتحقق خوارزمية "إيفا" توازناً بين الحفاظ على تقديرات عالية الجودة لانتشار كوفيد-19 بين الدول وبين استخلاص النتائج التي تساعد على توقيف المسافرين الذين يُشتبه إصابتهم. وتُعَدّ هذه التكنولوجيا أول نموذج يستخدم تلك الخوارزمية لمواجهة تحديات القطاع الصحي، بعد استخدامها سابقاً كوسيلة لتقييم جدوى الإعلانات ورواجها في المواقع الإلكترونية.
بيد أن خوارزمية "إيفا" لا تحل المشكلات التي تفرضها التدابير الميدانية في الواقع وخصوصيات التعامل المختلفة بين البلدان، أو حتى بين وجهتين في بلد واحد. فهذه تمليها قوانين السفر والتنقّل المطبّقة وشدّة التدابير الوقائية وتغيّراتها. وقد ينطوي تكييف "إيفا" لتلبية حاجات بلدان أخرى على ضرورة تصميم استمارة لجمع بيانات عن المسافرين تتلاءم مع السياسات المختلفة للهجرة والسفر، وربطها بشكل وثيق بالموارد المساعدة لعملية رصد الوباء، مثل مختبرات الفحوص الطبية.
بمعنى أنه يتعيّن جمع بيانات خاصة ومميزة عن تلك العامة، كالتي تجمعها استمارات تحديد مواقع المسافرين المستخدمة في التطبيق اليوناني، وتخصيصها لتتلاءم مع أوضاع ذلك البلد وخصوصياتها، من أجل اتخاذ القرارات المناسبة. ومن هذه البيانات، على سبيل المثال، المهنة، حيث تُعدّ معياراً صائباً يفترض رصده، لأن ثمة مهناً تنطوي على مخاطر العدوى أكثر من غيرها. وكل ذلك بالتماشي مع إملاءات القانون الأوروبي لحماية البيانات العامة الذي يحصر نطاق البيانات التي يسمح استخدامها في "إيفا".
لكن بالرغم من ذلك، شكلت تجربة اليونان مع نظام "إيفا" خطوة ناجحة أتاحت الفرصة أمام المعنيين لتوسيع وتفعيل البنية التحتية المستخدمة في عملية اختبار المسافرين ضد عدوى كوفيد-19 بشكل يتماشى مع الانتشار السريع للمرض. كما تمكّن النظام من تحليل البيانات التي تتجمّع في النقاط الحدودية للكشف عن ازدياد الانتشار في بلد ما، قبل 9 أيام من ظهور ذلك المؤشر في قوائم البيانات العامة، ووضع بعض الدول الأكثر خطورة للإصابة بفيروس كورونا على لائحة خاصة لمتابعتها عن قرب. ولعل أحد أهم إنجازات "إيفا" هو القدرة على تحديد المسافرين المصابين من دون أعراض بشكل أكثر دقة عما يحدده الاختبار العشوائي التقليدي بنسبةـ 1.85 مرة، بينما تتراوح في مواسم الذروة بين ضعفين و4 أضعاف.
المراجع