تسعى العديد من الحكومات المحلية في المملكة المتحدة لإدماج الأدوات التقنية في عمليات التخطيط، واللجوء إليها لفهم البيئات الحَضَرية ورسم الخرائط التفاعلية والتصوّرات ثلاثية الأبعاد وإشراك الناس في عمليات صنع القرار.
ينبغي لمخطّطي المدن أن يصمّموا لأبنائها مساحاتٍ تلائم أنماط حياتهم، إذ لا بد للمدن أن تحاكي ساكنيها. وعليه، أصبح من الطبيعيّ أن مجتمعات اليوم الرقمية بحاجةٍ إلى مدنٍ مصممةٍ على هذا الأساس، ولم يعد ممكناً لعملية التصميم هذه أن تتم بمعزل عن التكنولوجيا.
في السابق، واجهت الأبنية في المملكة المتحدة مشكلاتٍ عديدةً تتعلق بالظواهر الطبيعية وظروف الطقس والبيئة المحيطة، وكثيراً ما افتقرت المشاريع العمرانية لأسسٍ علميةٍ في اختيار المواقع، بينما عانت بلديات مدنٍ كثيرةٍ بسبب حالات انهيار الأبنية التراثية. ترجع كلّ هذه التحديات وغيرها إلى غياب المعلومات الكافية، فعند التعامل مع الأبنية أياً كان نوعُها، يجب على مخطّطيها ومصممّيها وبنّائيها امتلاك فهمٍ كاملٍ لكلِّ تفصيلٍ فيها، وكلِّ ما يقع فوقَه أو تحتَه.
لهذا، قرّرت الحكومة المركزية بالمملكة المتحدة في العام 2018 أن تؤسّس اللجنة الجغرافية المكانية التي تضمّ عدداً من الخبراء المستقلّين وغير التابعين لأيّ كياناتٍ حكوميةٍ أو غير حكومية. سيتولّى هؤلاء مسؤولية رسم الاستراتيجية الجغرافية المكانية للمملكة وتنسيق أنشطتها بين الجهات الحكومية.
ضمن مساعي التطوير هذه، يمكن القول بأنَّ الاعتراف بدور التقنيات الحديثة واتخاذ القرار بزيادة الاعتماد عليها كان الحجر الأساس. جاء في مقدّمة هذه التقنيات نظام المعلومات الجغرافية، وهو نوعٌ من البرمجيات التي تقوم بإنشاء البيانات وتحليلِها وتصنيفِها وإدارتِها والبناءِ عليها في وضع الخرائط، حيث يستطيع تحديد مواقع الأجسام أو الأبنية مثلاً إلى جانب توليد المعلومات الوصفية حولها.
في المملكة المتحدة– كما في العديد من الدول الأخرى– يُستخدم هذا النظام في مجالاتٍ وقطاعاتٍ متعدّدة، كالهندسة والنقل والخدمات اللوجستية والتأمين والأعمال التجارية والاتصالات السلكية واللاسلكية. ولزيادة هذه الاستخدامات، تعاونت الحكومة مؤخراً مع شركاء من القطاع الخاص بتنظيم مسابقة للمجالس المحلية لاختيار أفكار مُبتكرةٍ توظِّف التكنولوجيا الجغرافية المكانية لترقية عملية التخطيط الحضري. ومن بين 50 مشاركة، فازت المجالس المحلية في كلٍّ من نوتنغهام وداركوروم بورو وساوث إيرشاير.
استهدف مشروع مدنية نوتنغهام بناءَ التصوّرات ثلاثية الأبعاد وزيادةَ استخدامها ضمن الكيانات المعنية ومع العامة، حيث أنشأ فريق المطوِّرين نموذجاً أولياً لأداة تقييم المواقع التي تلتقي فيها جميع البيانات المكانية لتكوِّنَ معطى واحداً ثلاثيَّ الأبعاد، يتضمن المخطّطَ المُقترَح ومناطقَ الحفظ والحماية والمواردَ المخصّصة للموقع ومخاطرَ الكوارث الطبيعية كالفيضانات والزلازل، إلى جانب الغطاء الأخضر.
في سيناريو نموذجيّ، يمكن للمخططين الاطّلاع على هذا المرجِع وتبيان التحديات والفرص المرتبطة بموقعٍ ما ليستطيعوا تقييمَه وفهمَ معطياتِه وتوقّعَ مخاطرِه.
أما مشروع داركوروم، فركّز على تطوير برمجيةٍ تستطيع تحويل النصوص المكتوبة وجداول البيانات إلى خرائط رقميةٍ حديثةٍ وتفاعلية. وحين نقول "خريطة"، فلا نشير إلى مساحة جغرافية، بل إلى معادلٍ بصريٍّ يتتبّع مساهمات المطوِّرين والمجتمعات المحلية، فيبيّن مصادرها وأين تم إنفاقُها ضمن بياناتٍ مرئيةٍ واضحةٍ يمكن استخدامُها لأغراض متعدّدة.
بدوره، توجّه مشروع مجلس مدينة ساوث إيرشاير إلى إيجاد أساليب جديدةٍ للمشاركة الفعّالة من أبناء المجتمع وأصحاب المصلحة، فأسس منصة استشاراتٍ تضمّ كلّ الأطراف المعنية وترتبط بوسائل التواصل الاجتماعيّ، لجمع آراء المواطنين حول احتياجات التخطيط الرئيسية ومشكلاته ضمن مجتمعاتهم، وهي تعتمد على نظامٍ يجمع هذه الآراء والتعليقات ويحوِّلها إلى معطياتٍ بصريةٍ مرسومةٍ على طريقةٍ تفاعليةٍ يرجع إليها المخطِّطون في عملية اتخاذ القرار.
كما خاضت مدن أخرى تجاربها الخاصة مع هذا النظام، فمدينة ويست مينيستر مثلاً استخدمت ميزة تحليل الموقع لتحدِّدَ الطرق المثلى التي يجب أن تسلكها شاحنات جمع النفايات لتوفّر الوقت والجهد وأموال دافعي الضرائب.
من الجدير بالذكر أنّ الحكومة تجري أيضاً عمليات ترميمٍ لبعض المنازل والشوارع شبه الأثرية، والتي يعود عمرها إلى أوائل القرن العشرين، ففي حين تحرص السلطات على حماية إرثها الفيكتوريّ، تريد في الوقت نفسه أن تجعل هذه البنى ملائمةً للقرن الحادي والعشرين وقادرةً على مواجهة تحدّياته وتلبية احتياجاته.
سلّطت هذه المشاريع التجريبية التي احتضنتها المدنُ الفائزةُ الضوءَ على تحديات مشتركةٍ تواجهها مختلف السلطات المحلية، وقدّمت لها حلولاً قد تكون مجدية، ففكرة الرسوم ثلاثية الأبعاد تعني بناءَ فهمٍ أفضل واتخاذ قراراتٍ أكثر استنارةً بالنسبة لمخطّطي المدن. أما فكرة الخرائط فبيّنت أهمية الفهم المكاني للاستثمارات، عبر تقديم شرحٍ بصريٍّ وتفاعليّ للناس يريهم كيف تحوّلت أموالُهم إلى بنى تحتية، ما يزيد الثقة بينهم وبين السلطات ويعزّز الشفافية ويقلّص هامش التراخي والفساد. بينما قدّم مشروع منصة الاستشارات مثالاً نموذجياً على فائدة المشاركة بين الأطراف كافةً في وضع خطط التنمية للوصول إلى أفضل النتائج.
أثبتت هذه المشاريع أيضاً قدرة التكنولوجيا على تحسين عمليات التخطيط، وتوفير التكلفة والوقت، ومساعدة مخطّطي المدن على بناء فهمٍ أعمق للمعطيات الديمغرافية وما يحكمها من أنماطٍ وعلاقات، ما يزيد كفاءة التخطيط وجودة الإدارة وفعالية عمليات صنع القرار.
على مستوى أعمق، تتطلّع حكومة المملكة المتحدة إلى استغلال هذه التقنيات لتحقيق أقصى الفرص الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، ولتحجز لنفسها مكانة رائدة في مجال العلوم الجغرافية المكانية على مستوى عالمي.
المراجع:
https://www.esri.com/en-us/what-is-gis/overview
https://assets.publishing.service.gov.uk/government/uploads/system/uploads/attachment_data/file/958420/MHCLG-Planning-Consultation.pdf
https://www.bimplus.co.uk/councils-demonstrate-role-of-gis-in-digital-planning-with-esri-uk/
https://www.geospatialworld.net/prime/technology-and-innovation/uk-local-authority-projects-use-gis-for-planning/
https://www.ukauthority.com/articles/nottingham-city-council-develops-3d-visualisation-prototype-for-planning-process/
https://assets.publishing.service.gov.uk/government/uploads/system/uploads/attachment_data/file/894755/Geospatial_Strategy.pdf
https://www.civilserviceworld.com/professions/article/how-the-geospatial-commission-is-putting-the-uk-on-the-map