سعياً لاحتواء ظاهرة القيادة المستهترة التي تعتلي لائحة مسبِّبات حوادث الطرق في العالم، لجأت حكوماتٌ عدّة في كلٍّ من أوروبا وأمريكا إلى الكاميرات الذكية التي تعمل بالذكاء الاصطناعيّ، لترصدَ المخالفات وتتكاملَ مع أُطُر ولوائحَ قانونيةٍ صارمةٍ لا تتهاون مع أيّ سائقٍ يعطي لعوامل التشتيت الأولوية على حساب سلامته وسلامة الآخرين.
اعتاد الكثير على مشهد سائقٍ يمسك مقود السيارة بيد ويستخدم هاتفه الذكيّ بأخرى، فهو وجه من أوجه ظاهرة القيادة المُشتّتة.
يشمل هذا المصطلح أيّ فعلٍ يصرف انتباه سائق السيارة عن الطريق أمامه، من محادثة الركاب إلى تبديل القنوات الإذاعية أو استخدام نظام المعلومات الجغرافية أو كتابة الرسائل النصية. وتُعدّ الأخيرة أبرزَ مصادر التشتيت، وتفرض الخطرَ الأكبر، لأنّها تتطلّب قدراً من التركيز يحتّم على السائق إبعاد عينيه عن الطريق ويُفقِده إدراكَه لأبعاد المكان، وهي تنفرد بنسبة كبيرة من حوادث السير حول العالم، وتتسبّب بنتائج كارثية، كما في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يودي التشتّت بالهواتف بحياة 9 مواطنين ويتسبّب بإصابة 1000 آخرين كلّ يوم، وذلك وفقاً لبحثٍ أجرته الإدارة الوطنية للسلامة المرورية على الطرق السريعة.
بدوره، أجرى الاتحاد الأوروبي دراساتٍ مشابهة، وتوصّل إلى أنّ 25% من حوادث السيارات ترجع إلى تشتّت انتباه السائق. نتيجةٌ ولّدت اهتمام دولٍ لم يسبق أن خصّصت لهذه المسألة دراساتٍ أو إحصائياتٍ رسمية، مثل ألمانيا، ففي ضوء هذه الأرقام العالمية المقلِقة، أجرت الشرطة الألمانية عمليات تفتيشٍ مفاجئة على مستوى البلاد، حيث وجدت أكثر من 3 آلاف سائق يستخدمون هواتفهم الذكية أثناء القيادة وحوالي 10 آلافٍ آخرين مشتّتي الانتباه، كما أوقفت أكثر من 51 ألف مركبة، وكلّ ذلك في غضون ساعاتٍ فقط.
لا تقتصر هذه الحالات على أوروبا وأمريكا، بل تبدو حقيقةً واقعةً في معظم دول العالم. لهذا تبحث كلّ حكومةٍ عن حلولٍ تشبهها، من حملات التوعية الوطنية إلى سنِّ القوانين الصارمة مروراً بفرض الغرامات، وليس انتهاءً باستخدام التقنيات الحديثة.
في المملكة المتحدة مثلاً، بدأت إدارات الشرطة والإطفاء والطوارئ في مقاطعتَي ديفون وكورنوال بإدماج تقنيات المراقبة مع الذكاء الاصطناعيّ لإحداث نقلةٍ نوعيةٍ في السلامة الطرقية، حيث تراقب الكاميرات حركة السيارات وتحدّد ما إذا كان السائق يستخدم الهاتف المحمول أو لا يضع حزام الأمان أو يتعدّى حدود السرعة، وبعد أن تتعرّف الخوارزميات على المخالفة، يتم إخطار السائق بها تلقائياً.
وذلك بعد أن خَلُص بحث أجرته السلطات في المملكة المتحدة إلى أنّ 55% من البريطانيين يشهدون حالات استخدام الهاتف الخليوي أو عدم الالتزام بحزام الأمان بمعدّل شبه يوميّ، في حين أكّد 81% من المشاركين في الدراسة على ضرورة زيادة إنفاذ القانون.
نتائج مشابهة وصلت إليها السلطات في بلجيكا، حيث بيّنت المراقبة العشوائية أنّ 5% من السائقين البلجيكيين شُغلوا بهواتفهم أثناء القيادة.
فأطلقت الحكومة البلجيكية تجربة مماثلة للمملكة المتحدة في مدينة أنتويرب للكشف التلقائي عن استخدام السائقين لهواتفهم بالاعتماد على الكاميرات الذكية، وذلك بالتقاط الصور عبر الزجاج الأماميّ ونافذة السائق. تتميّز هذه التجربة عن سابقتها بأنّ المخالفة لا تُحدّد بناءً على تقييم الذكاء الاصطناعيّ وحده، بل يجب أن تخضع لمراجعة موظّفين حقيقيين. كما أنّ هذه المخالفات ليست مصحوبة بغرامات مالية حتى الآن، حيث تعمل الحكومة الفيدرالية على سنِّ قانونٍ جديد يغرّم السائقين.
لكنّ المجلس الأوروبي لسلامة النقل أفاد بأنّ أولى التجارب الأوروبية كانت في هولندا، حيث قامت السلطات بتركيب شبكةٍ من الكاميرات التي تعمل على مدار الساعة، وفي الظروف الجوية كافة، وتلتقط الصور لكلّ سيارة تمرّ أمامها بزاوية لا تُظهِر رأس السائق، بل يديه فقط، وبحجم يضمن ظهور لوحة السيارة أيضاً. كما كانت هولندا سبّاقة في حظر استخدام الهواتف النقّالة أثناء قيادة السيارات والدراجات النارية منذ العام 2002، ثم توسّع هذا الحظر في العام 2019 ليشملَ كلّ الأجهزة الإلكترونية المحمولة الأخرى كالحواسيب اللوحية وأجهزة تشغيل الموسيقى وأنظمة الملاحة.
وفي ألمانيا، بدأت الحكومة بالعمل على بياناتها الرسمية وتعديل قوانينها وأنظمة الإبلاغ عن الحوادث المُعتمدة لديها، فأدرجت تصنيفاً جديداً، وهو التشتّت. ولجمع الأدلة حول هذه البلاغات، اختارت الحكومة الألمانية الحلّ التكنولوجي أيضاً، فوظّفت الكاميرات لتراقب ما يحدث داخل السيارة وتجري مسحاً ذكياً سريعاً بحثاً عن يد السائق التي ينبغي ألا تبتعد عن المقود، فتكشف ابتعادها وانشغالها باستخدام الهاتف، لترسل بلاغاً تلقائياً تترتّب عليه غرامة وإشارة على رخصة القيادة. ويجري تدريب خوارزميات الذكاء الاصطناعيّ هذه على رصد المخالفات عبر التقاط آلاف الصور والمقاطع وتقييمِها من قِبل اختصاصيين بشريين لتكون أُسساً مرجعيةً للنظام.
في مواجهة التحدي الذي يواجه هذه التقنيات، والمتعلّق بمخاوف الخصوصية والحماية، استخدمت الحكومة الألمانية كاميرات لا تستطيع التعرّف على الوجوه، وترسل صورها إلى الجهات المعنية بالسلامة المرورية حصراً.
وبالطبع، يبقى السبب الأساسي للمشكلة أهمّ تحدٍّ يواجهها، فالسلوك البشريّ غير قابلٍ للضبط بشكلٍ كليّ، والسائقون– حتى في أكثر المجتمعات تحضُّراً– سيجدون دائماً أساليب للتحايل على الآليات الرقابية، كوضع الهاتف ملاصقاً للباب أو تثبيته على دعامة بحيث لا يظهر للكاميرا.
تغيير المجتمعات يحتاج إلى مسعى طويل، وهو ما تهدف إليه هذه الجهود، فغايتها لا تقتصر على رصد المخالفات ومعاقبة مرتكبيها، بل تشمل ترقية ثقافة السائقين وزيادة التزامهم بالقانون للوصول لشبكات نقل أكثر أماناً وموثوقية.
المراجع:
- https://www.dw.com/en/germany-police-catch-3100-drivers-on-their-cell-phones-in-one-day/a-45584719
- https://fallman.tech/germany-using-cameras-and-ai-to-catch-distracted-drivers-holding-smartphones/
- https://www.bbc.com/news/uk-england-devon-62993340
- https://visionzerosouthwest.co.uk/pioneering-cameras-that-catch-drivers-on-their-phone-trialled-in-devon-cornwall/
- https://www.forbes.com/sites/tanyamohn/2021/12/30/smart-cameras-catch-drivers-on-their-mobile-phones-the-netherlands-issues-automated-fines/?sh=54b83ba31bda
- https://www.brusselstimes.com/145737/antwerp-police-test-smart-cameras-that-see-drivers-texting
- https://www.brusselstimes.com/312526/life-threatening-5-of-brussels-drivers-use-mobile-phones-behind-wheel