شكلت جائحة كوفيد-19 تحدياً لم يعهده العالم من قبل، إذ كشفت عن مواطن ضعفٍ عديدة في صنع السياسات والأنظمة الصحية، أدّت إلى قصورٍ في التعامل مع الأزمة. بيد أنّ بعض الدول لجأت إلى استخدام أساليب مبتكرة ساهمت في الحد من وطأة الأزمة، وأثبتت جدارةَ أن تصبح جزءاً من آليات دعم الجهوزية لمواجهة الطوارئ الصحية في المستقبل. كانت كندا واحدة من تلك الدول، حيث اتجهت نحو استخدام البيانات الضخمة لرصد حركة تنقل السكان في محاولة لدعم عملية صنع القرار في مواجهة كوفيد-19.
بعد شيوع استخدام الهواتف النقالة الذكية، باتت البيانات الضخمة المستقاة من تطبيقاتها مصدراً غنياً بالمعلومات حول سلوكيات مختلف فئات السكان وتجولهم، والتنبؤ بها إلى حد ما، ما يساعد الجهات المسؤولة في صنع السياسات والقرارات الصحيحة، خاصة في ظل الأزمات. لكن التعامل مع البيانات غير التقليدية، مثل البيانات الضخمة، أمرٌ لا يخلو بحدّ ذاته من تحديات. هذا ما أدركته وكالة الصحة العامة في كندا عندما باشرت النظر في كيفية الاستفادة من تلك البيانات في تحديد حركة السكان وتنقلاتهم خلال انتشار العدوى بالجائحة. شملت التحديات تحديد البيانات التي تفي باحتياجات الوكالة، والحرص على عدم المسّ بخصوصية السكان، بالإضافة إلى الطبيعة الديناميكية والمتغيرة باستمرار للأزمة، في ظل تنقل الناس في المدن.
تطلّب الأمر استشارة خبراء في مجال الاتصالات، وعلماء تكنولوجيا المعلومات، ومختصين في علوم الأوبئة، وصانعي سياسات. في البداية قام فريق عمل صغير من المتحمسين للفكرة من بين موظفي الوكالة بالبحث والتنسيق مع تلك الجهات حول سبل التعامل مع البيانات الضخمة. فحددوا مصدرين للحصول على البيانات الضخمة المطلوبة. أولهما، مزودو خدمات الاتصالات الجوالة، اعتماداً على بيانات اتصال هواتف المستخدمين بأقرب برج اتصالات خلوية خلال تجولهم، أو عندما تستقبل أو ترسل هواتفهم المكالمات أو الرسائل أو البريد الإلكتروني. وتمثل المصدر الثاني في تطبيقات التعهيد الجماعي التي توفر البيانات الجغرافية المكانية لهواتفهم باستخدام النظام العالمي لتحديد المواقع.
لكن في غياب اختصاصيين قادرين على استكشاف وربط البيانات غير التقليدية وتحليلها ضمن طاقم موظفيها، لم تستطع الوكالة أن تتخذ قرارات فعالة وشاملة أو في أوانها، هذا فضلاً عن الحاجة إلى التشاور المستمر مع الخبراء في صنع السياسات. تم التغلب على هذه العقبة بإنشاء فريق عمل كامل ضمن قسم خاص داخل الوكالة، شمل الفنيين المتخصصين في التعامل مع البيانات غير التقليدية، وخبراء السياسات وخصوصية البيانات، ليكون هذا القسم في طليعة الجهود الهادفة لبناء القدرات الذاتية للوكالة لمعالجة وتحليل البيانات غير التقليدية بشكل فعال.
تمثلت مهام فريق العمل الجديد في توفير خدمات تخصصية من جهة تقديم الدعم للاستحواذ على البيانات، وتقييم مختلف مصادر البيانات غير التقليدية، بالإضافة إلى تصميم وتطوير نظم قادرة على جمع وتخزين البيانات، ثم دمجها في أدوات تحليلية وعروض مرئية لمساعدة المسؤولين المعنيين على اتخاذ قرارات مستندة إلى الحقائق والتحليلات العلمية. اعتمد الفريق في تحديد البيانات الواجب تحليلها لدعم أولويات الصحة العامة في كندا على البحوث، والاستشارات، ومتطلبات خصوصية المعلومات. وهو ما شكل الإطار العام لعمل الفريق في تقييم احتياجات الوكالة من البيانات لتطوير آليات عملها، وبلورة الأساس المنطقي لاستخدام البيانات غير التقليدية، وعملية إشراك الجهات المعنية والسكان.
تمحور اهتمام فريق العمل في البداية حول الفرص التي توفرها البيانات غير التقليدية، من جهة تحديد جوانب الصحة العامة التي يمكن أن تلقي الضوء عليها، ومحدودية تلك البيانات. وركّز على البيانات المتعلقة بتنقلات السكان، لكنها شملت أيضاً بيانات أخرى لاستكمال الصورة بالمعلومات ذات الصلة خلال حقبة الجائحة. شددت الوكالة في الوقت ذاته على تعزيز القيم والأخلاقيات والقواعد المعتمدة لديها، كونها ليس فقط حريصة على رعاية صحة السكان وعافيتهم، بل وكذلك على صون خصوصياتهم خلال عملية جمع البيانات، وعدم التعريف عنهم أو المس بسياسات أمن معلوماتهم الشخصية.
تبين للفريق أن كلّاً من البيانات الضخمة الواردة من مزودي خدمات الاتصالات الجوالة، وتلك التي تم الحصول عليها من تطبيقات التعهيد الجماعي، هي بيانات لها قوتها ومحدوديتها، لكنها متشابهة من جهة التحليلات التي يمكن استنتاجها منها على مستوى السكان كمجموعة واحدة. شملت تلك التحليلات أنماط تنقل السكان في بشكل عام خلال الأزمة، ومستوى حركة التنقل بين أحياء المدينة، ونسبة تردد السكان على مواقع معينة– 'الأماكن التي تستأثر باهتمامهم'- ضمن أنشطتهم الروتينية، مثل الذهاب إلى السوق أو المستشفى. وتختلف البيانات المكانية في دقتها وفق مصدرها.
بالنتيجة، ساهمت تجربة الوكالة في استخدام البيانات غير التقليدية التي تم توفيرها بشكل شبه فوري في اتخاذ القرارات وإدارة الأزمة بشكل أفضل خلال جائحة كوفيد-19، وإن لم يكن على مستوى الطموحات الأولية. والأهم هو استكشاف طاقاتٍ كامنة أكبر في تطويع البيانات الضخمة مستقبلاً سواء في مجال الصحة العامة أو غيرها، إن كان على صعيد إدارة الأزمات أو التنبؤ بها لمنعها أو الحد من آثارها. كما كشفت التجربة عن تطبيقات واعدة لتحليلات البيانات الضخمة، سواء من خلال استخدامها بالتوازي مع أساليب الرصد التقليدية لتعظيم دورها، أو تطبيقها على مستوى المقاطعات والأقاليم في كندا.
يمكن القول إنّ تجربة وكالة الصحة العامة أكدت على أهمية الشفافية والوضوح في التواصل مع السكان والتعامل بشكل قانوني وأخلاقي مع البيانات الشخصية، فضلاً عن أهمية التعاون مع الخبراء وجميع الجهات ذات الصلة، وإنشاء نظام قوي لإدارة البيانات الضخمة.
المراجع: