مع ازدياد توقّعات الناس من الحكومة، انطلقت كوريا الجنوبية في رحلةٍ صوب التحوّل الرقميّ، وشرعت في مشروع "حكومة المنصة الرقمية" التي ستقدّم الخدمات المدنية للمواطنين بأقلّ قدر من الأعمال الورقية.
مع تنامي اعتماد الناس على التكنولوجيا، أصبح الوصول إلى الخدمات الرقمية أمراً لا غنى عنه لدى الحكومات التي تطمح إلى أداء اقتصاديٍّ شاملٍ واستقرارٍ لمواطنيها، فباتَ عليها أن تصل إلى المواطنين والشركات، لا أن تطلبَ منهم الوصول إليها.
حتى أواخر العام 2019، كانت معظم حكومات العالم تسعى لتحسين أدائها الرقميّ، إلى أن جاء العام 2020 بأزمةٍ ستحوِّل الحوكمة الرقمية من تطوُّرٍ تَرِفٍ إلى حاجةٍ ملحّة. فحين أجبرت جائحة كوفيد-19 الناس على ملازمة بيوتهم، لم يعد التقدّم الرقميّ مقتصراً على وصولهم إلى المعلومات، بل اتّسع المفهوم ليشمل الخدمات الصحية والقانونية والتعليمية والتجارية التي يجب أن تُقدَّم عن بُعد ولمختلف الفئات الاجتماعية والعمرية.
وسعياً إلى نظامٍ حكوميٍّ رقميٍّ متكامل، أطلقت الحكومة الكورية استراتيجية ابتكارٍ جديدةً تحمل اسم "حكومة المنصة الرقمية" التي ستقودها وزارة العلوم وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
بدأ العمل بتشكيل لجنةٍ رئاسيةٍ تضمّ 19 خبيراً خاصاً و4 وزراء لتصميم شكلٍ جديدٍ للعمليات الحكومية، بحيث تتمحور حول الناس، وتستند إلى العلوم والبيانات الدقيقة، وتتحلّى بالشفافية، وتتعاون مع القطاع الخاص، وتنتهز كلّ فرصةٍ توفِّرها الرقمنة.
ستتفرّع عن هذه اللجنة الأساسية 6 لجانٍ فرعية مصغَّرة، تغطّي مجالات عدة، من الذكاء الاصطناعيّ والبيانات مروراً بالبنى التحتية، ثم الخدمات، فابتكار مناهج العمل، وانتهاءً بمجالَي النظام البيئي الصناعيّ وحماية المعلومات.
على مدى 5 أشهر، خاضت اللجان أكثر من 100 لقاء، نتج عنها قرابة 140 مهمة ينبغي إنجازُها، سيختار الخبراء منها المهام ذات الأولوية بعد إجراء دراسات الجدوى.
ستتكامل هذه المنصة مع بوابة "حكومة 24" التابعة لوزارة الداخلية والسلامة، والتي تعمل على جمع البيانات، وستجعل معظم البيانات الحكومية مفتوحة المصدر لتدعم الشركات الخاصة في تطوير ما تقدّمه من منتجات وخدمات، بعد أن تلغي اللوائح والقوانين التي تعوق الوصول إلى البيانات واستخدامَها، وتتبنّى نموذجاً موحّداً للبيانات، وسياسةً لمشاركة المعلومات دون أسماء أصحابها.
ستكون هذه المنصة بمثابة أرضية اختبارٍ يتعاون فيها القطاعان الحكوميّ والخاص في تجربة أي ابتكارٍ جديد، شرطِ أن تكون التجارب والقرارات مستندةً إلى البيانات. ولهذا، تكرّس الحكومة جهدها لإرساء بنية تحتية مبتكرة للمنصة ولتعزيز الاتصال بين الأنظمة القائمة حالياً وتمكينِها من تقديم خدمات تلبّي التوقعات المتنامية لدى الناس. هذا يعني أن تنتشر التقنيات الثورية على نطاقٍ واسع، وفي مقدِّمتها الحوسبة السحابية والبيانات الضخمة وتطبيقات الذكاء الاصطناعيّ، ويعني أيضاً أن تسود بيئةٌ من الثقة وضمان أمن المعلومات وعدم إساءة استخدام البيانات الشخصية أو تسريبها، وهذا أساسيٌّ لإشراك الناس في كلِّ خطوةٍ يتم اتخاذها، ويمكن تحقيقُه باعتماد تقنياتٍ متقدمة، مثل بلوكشين والتشفير الكمّي وما شابهها.
في الوقت نفسه، تراعي الحكومة الكورية التوجّه الأخضر والتزاماتِها إزاء تغيّر المناخ، فتعمل على تخضير اقتصادها، كما أنها أطلقت في العام 2020 الاتفاقية الكورية الجديدة التي ستحمل استثماراتٍ بقيمة 160 تريليون وون لتوليد قرابة مليوني فرصة عمل بحلول العام 2025.
لكنّ رحلة التحوّل الرقمي التي بدأت مطلعَ الألفية فرضت عدداً من التحديات، من العدد المَهول لصوامع أنظمة تكنولوجيا المعلومات الذي جعل تقديم الخدمات المتكاملة والمصمّمة وفقاً لاحتياجات الأفراد أمراً معقّداً، إلى اختلاف الأنظمة الرقمية التي طوّرتها كلّ وزارةٍ ومؤسسة تبعاً لاحتياجاتها وخبرات كوادرها، ما أدّى إلى انقساماتٍ حادةٍ في أساليب العمل وزاد صعوبة ربط الأنظمة ببعضها وتبادل البيانات بين الكيانات الحكومية.
لعقود، أثبتت جهود الحكومة الكورية فائدتها، فهي تحتلّ كلّ عام إحدى المرتبات الثلاث الأولى على مؤشر الأمم المتحدة لتنمية الحكومات الإلكترونية، وذلك منذ العام 2010. كما أنّها تنفرد بالريادة في البنى التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات وقواعد البيانات العامة المفتوحة.
وفي المرحلة المقبلة، من المأمول أن تحقّق هذه التحديثات زيادةً في القيمة وتوفيراً في التكلفة الإجمالية لنظام المعلومات وتجربةً أكثر غنىً للمستخدمين. بالإضافة إلى ذلك، ستجعل هذه النقلة التعاون بين القطاعين الحكوميّ والخاص والوزارات والسلطات المركزية أمراً طبيعياً، ما سيلغي آليات العمل الفردية الخاصة بكلّ مؤسسة حكوميةٍ على حدة.
في بلدٍ يلتقي فيه المواطنون والقطاع الخاص والحكومة عبر منصةٍ واحدة، ستكون الخدمات أفضل، وستنشأ قيمة جديدة ودرجة عالية من التقارب والتشاركية.
وعلى هذه الأهداف، بَنَت الحكومة الكورية رؤيةً مستقبليةً لهذه المنصة، فهي تتطلّع إلى جعلها معياراً عالمياً وقصةَ نجاحٍ تستحق المشاركة والانتشار عبر الدول.
المراجع:
- https://www.weforum.org/agenda/2023/01/davos23-korea-digital-platform-government/
- https://www.msit.go.kr/eng/bbs/view.do?sCode=eng&mId=4&mPid=2&pageIndex=&bbsSeqNo=42&nttSeqNo=443&searchOpt=&searchTxt=
- https://pulsenews.co.kr/view.php?year=2022&no=285795
- https://www.dgovkorea.go.kr/service1/g2c_01/gov24
- https://www.koreatimes.co.kr/www/tech/2023/02/129_344616.html
- https://www.dgovkorea.go.kr/
- https://www.iea.org/policies/11514-korean-new-deal-digital-new-deal-green-new-deal-and-stronger-safety-net
- https://www.forbes.com/sites/markminevich/2022/10/29/digital-government-is-no-longer-an-option-it-is-an-imperative/?sh=30ed19a05d23
- https://www.weforum.org/events/world-economic-forum-annual-meeting-2023/sessions/special-address-by-yoon-suk-yeol-president-of-the-republic-of-korea